علوُّ الهمَّةِ في طلب العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل المُرسلين وخاتم النبين وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

سنتحدث في هذا الحَدِيْث –بحول الله تَعَالَى وقوته- عن [آداب طلب العِلْم وعن علو همة طالب العِلْم].

والهمةُ هي: قوة الانبعاث في الشيء وطلبه بصدق

فينبغي للإنسان أن يكُون جادًّا في كُلِّ ما ينفعه، وأن يبذُل همته ووُسعه في أنْ يُحصل المراتب العُلا من كُلِّ ما يُحقِّق له المصالح الدُّنيويّة والأخرويّة، وقد قال اللّه تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]، وهمّةُ المُؤمن تكُون عاليةً باستشعار هدفِهِ العظيم الذي من أجلِهِ يسعى وخصُوصًا إذا كان هذا الهَدف هُو طلب العِلْم، فإن طلب العِلْم من أعظمِ ما ينبغي أن يسعى إليه الإنسان، فهُو ميراثُ النُّبوّة فالأنبياء لم يُورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورَّثُوا هذا العِلْم كما قال ﷺ: «فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر» فالعِلْم هُو ميراث الأنبياء، فينبغي للإنسان أن يستشعر سُمُو هذا الهدف، وأنه هدفٌ عظيمٌ نبيل، فإذا استشعر ذلك فإن ذلك سيكُون مُقويًّا لباعثه وهمته تُجاه هذا النبيل الذي هُو تحصيل ميراث النُّبوّة وأيُّ شيءٍ أعظم من أن يكُون الإنسان خليفة رسُول اللّه ﷺ في تبصير النّاس وهدايتهم وتعليمهم الخير، ثُمَّ ينبغي لطالب بالعِلْم كذلك أن يعرف المكانة السّابقة والعالية التي يحتلُّها العِلْم، وأن يُدرك فضل العِلْم فاني اللّه سُبحانه وتعالى يرفعُ أهل العِلْم على غيرهم ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]، وقد أخبر اللّه – سُبحانه وتعالى – أنّه أشهد أهل العِلْم وأشركهم معه ومع ملائكته بشهادتهم فقال تَعَالَى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران:18]، وحكم بأهل العِلْم على غيرهم فقال: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر:9]، وأخبر أنّ الخشية محصُورٌ في أهل العِلْم: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]، وأحاديث رسُول اللّه ﷺ مليئةٌ بالحض على العِلْم والحثِّ عليه وبيان فضله وقد قال ﷺ: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا سهَّل اللّه له به طريقًا إلى الجنَّة» وقال ﷺ: «الدُّنيا ملعُونةٌ ملعُونٌ ما فيها إلّا ذكر اللّه وما هُو والاه وعالمًا أو مُتعلّمًا» وقال ﷺ: «من يرُد اللّه به خيرًا يفقهه في الدّين».

لم يأمُره اللّه – سُبحانه وتعالى – بأن يطلُب الاستزادة من شيء في هذه الدُّنيا إلّا من العِلْم، فأمره أن يقُول: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، فإذا استشعر الإنسان مكانة العِلْم، وفضل أهل العِلْم، وأنّهم ورثة الأنبياء كان ذلك مُقويًا لباعثه ولهمّته إذ يُحصُل هذا الهدف العظيم وهُو أن يكُون من ورثة الأنبياء، وأن يكُون خليفة لرسول اللّه ﷺ في تعليم النّاس الخير، وفي بيان أُمُور دينهم.

وطلبُ العِلْم لا بُدَّ فيه من الصّبر، ولا بُدَّ أن يكُون الإنسان صابرًا على التّعلُّم:

قالت مسائلُ سحنونَ لقارئهالن تدركَ العِلْمَ حتى تلعقَ الصَّبرا
لا يدرك العِلْم بطالٌ ولا كسلٌولا ملولٌ ولا مَنْ يألفِ البشـرا

لن تُدرك العِلْم حتّى تلعق الصبرا الصبر شجر المر أو عُصارة الشجر المُر، والمعنى أنَّ الإنسان لا بُدَّ أن يذُوق مرارة الصّبر وهُو أن يحبس نفسه على أُمُور يكرهُها وأن يُخالف هواه لكي يُحصِّل هذا العِلْم ولكي ينتفع به.

(لا يُدرك العِلْم بطَّال) أي: مَن كان ذا بطالةٍ أيّ مُجُونٍ وباطل (ولا كسلٌ) لا يُمكن أن يُدرك العِلْم من كان من أهل الكسل، فلا بُدَّ أن يصرف الإنسان عنه الكسل لكي يكُونَ من أهل العِلْم، ولكي يكُون من أهل الهمم العالية في الخير وفي طلب العِلْم.

(ولا ملُول) من الأمراض العظيمة التي تُضعف همّة الإنسان الملل والسّآمة بعض النّاس ينطلق في طلب العِلْم ثُمَّ لا يلبث أن يمل ويسأم، فينبغي للإنسان أن يُحاول ألا يمل، وإذا عرض له مللٌ فإنّه لا ينبغي أن يفُت ذلك في عضده، بل ينبغي أن يُعاود بأسرع وقت ، وينبغي أن يَشُد همَّته وعزيمته حتَّى يتخلص من ذلك الملل ومن السّآمة، كذلك من العوائق التي تعُوق الإنسان عن طلب العِلْم، وإذا حصل له مللٌ من عِلْم فإنّه يُمكن أن يذهب إلى علمٍ آخر، فيُروى أن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنه كان إذا قرأ الأحاديث وأطال الحديث في الفقه قال: «هاتُوا الدّيوان» أي: هاتوا الشّعر. فينبغي للإنسان أن يُنوّع بينما يدرُسه يقيه ذلك ذلك الملل والضّجر والسّآمة فإن ذلك ممّا يفُت في عضُد طالب العِلْم إذا لم يكُن مُنتبهًا حَذِرًا من أن يقطع في ذلك.

(ولا من يألف البشر) إذا كان الإنسان أُلوفًا كثير الأصحاب كثير السَّمر مع أصدقائه كثير الخُروج معهُم كثير التّواصل معهُم، فإنّه لن يجد وقتًا كافيًا لطلب، فلابدَّ للإنسانِ أن يغترب لطلب العِلْم أي: أن يُخصّص وقتًا لطلب العِلْم يهجر فيه النّاس، فإذا استسلمت للنّاس فإنّهم سيأخذون أوقاتك، مَن استسلم للنّاس فإنّهم سيأخذون منه أوقاته، فينبغي للإنسان أن يكُون حريصًا على أن تكُون له أوقات لا يراه فيها أحد ولا يشتغل فيها إلّا بتحصيل العِلْم حفظًا وتفهُّمًا وتدبُّرًا.

وممّا يُعين أيضًا على الهمة في طلب العِلْم: أن يكُون الإنسان مُستشعرًا بهمم الصّدر الأوّل من أصحاب رسُول اللّه ﷺ والتّابعين وأتباع فقد كانت هممهم عالية، فينبغي للإنسان أن يقرأ في سيرهم فسير الصَّالحين كما قال بعض أهل العِلْم: «جُنُودٌ مُجندة يُثبت اللّه بها عباده» ومصداق ذلك من القُرآن قول اللّه تَعَالَى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود:120]، فكما أنّ قصص الأنبياء كانت تثبيتًا لفؤاد رسُول اللّه ﷺ فكذلك قصص الصَّالحين عبر التَّاريخ وقصص العِلْماء يُثبت اللّه بها السّائرين في طريق الحق، ويُثبت بها أصحاب الهمم العالية حتى يُحصلوا المأمول والمقصود.

كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كثيرًا ما يسمع الأحاديث من رسول الله ﷺ فلا يحفظها فتاقت نفسه، وعَلَت همَّته إلى أن يكون من أحفظ أصحاب رسول الله ﷺ وكلَّم النبي صلى الله عليه سلم في ذلك فدعا له النبي ﷺ وتفل في ثوبه وأمره أن يجمعه إلى صدرِهِ، فتحقق بذلك الدُّعاء وبتلك الهمة العالية ما كان يرجوه حتى أصبح أكثر أصحاب رسول الله ﷺ روايةً عَلَى الإطلاق، مع أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه إنما أسلم أيام خيبر في السَّنة السابعة من الهجرة، ومع ذلك فهو أكثر روايةً من السابقين الذين أسلموا في مكة، لكن كانت همتُه في طلب العِلْم، فحصَّل ذلك الذي هم به رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

يُروي ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن نفسه أنه لمَّا تُوفي رسول الله ﷺ كلم صديقًا له من الأنصار فقال: تعالوا نأخذ عِلْم أصحاب رسول الله ﷺ ونسأل أصحاب رسول الله ﷺ فهم كثير فقال له: «عجبًا لك يا ابن عباس متى يحتاج النَّاس إلى علمي وعلمك» فجعل ابن عباس رضي الله تعالى عنه يتتبع أصحاب رسول الله ﷺ ويأخذ العِلْم منهم حتى أصبح حَبْر هذه الأمة وبحرها، وأصبح كبار الصَّحابة يرجعون إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه وكانوا يسمونه فتى الكهول، ويجلسونه بمجالسهم حتى في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كان يُقرِّبه وكان يُجلسه في مجلسه وصدر كبار الصحابة عن رأي وفقه عبد الله ابن عباس رضي الله تعالى عنه، لأن همَّته العالية جعلته يتفرَّغ للعلم في صِباه، فجمع علمًا كبيرًا حتى أصبح بحر هذه الأمة وحبرها رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

هذه الهِمم العالية لأصحاب رسول الله ﷺ للسطر الأولى هي سطور من ذهب ينبغي أن يجعلها نصب عينيه، وأن يجعلهم قُدوةً مُثلى وأسوةً عُليا يَقتدي بهم في تحصيل معالي الأمور وعوائمها.

ثم مما يستعين به الإنسان في الهمة العالية: أن يصحب قُرناء الخير وأصحاب الهمم، وأن يبتعد عن قُرناء السوء وأصدقاء السوء، وقد مثل النبي ﷺ جليس السوء بنافخ الكير، ومثَّل الجليس صالحًا بحامل المسك، «فحامل المسك إما أنْ يُحذيك» أي: يعطيك شيئًا من مسكه، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا منتنة»، فكذلك القرين الصالح وقرين السوء هكذا ديدنه ودربه، وقديمًا قال الشاعر:

إذا كُنتَ في قومٍ فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينهِ فكلُ قرينٍ بالمُقارِن يقتدي

والصاحب يسرق طبع الصَّاحب، ولذلك كانوا يقولون:

إذا الحمار والحوار سيقا علَّمه الشهيق والنهيقا

فالصاحب يأخذ من أخلاق صاحبه، وربما أضلَّه عن الهُدى كما وقع لعقبة بن أبي معيط حين أضله أُبي بن خلف، ونزل فيه قول الله تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان:28]، قال ﷺ: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل».

فالصحبة الصالحة والخُلَّة الصالحة ينتفع بها الإنسان ويرتفِعُ بها ويعلو بها وفي مقابل ذلك يسفل وتنحطُّ همته وينحط قَدره بصحبة السوء، وينبغي للإنسان أن يعلم أن الهِمم علوها يكون على قدر أصحابها على قدر همم أصحابها وعلى قدر عقولهم، وعلى قدر أُناس كما قال أبو الطيب المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكِرام المكارِمُ
وتعظُم في عين الصغير صغارُها وتصغر في عين العظيم العظائمُ

  على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر المكارم وتعظم بعين الصغير صغارها فينبغي للإنسان أن يستعين بالله وإلا يعجز، كما قال أبو الطيب المتنبي:

عَجِبتُ لِمَن لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ
وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلى المَعالي فَلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ
ولم أر في عيوب النَّاس عيبًا كنقص القادرين على التَّمامِ

النبي ﷺ يقول: «إنَّ من الشعر لحكمه».

وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ عَيْبًا كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ

وما أكثر نقص القادرين على التَّمام، إنسان يكون قد أعطاه الله فهمًا وعنده وقت، ولكنه لا يصرف وقته ولا فهمه فيما ينفعه، فيُقصِّر به همته ويقصر به عزمُه عن أمور يستطيع إنجازَها فهذا عجز:

وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ عَيْبًا كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ

والعِلْم لا بد في طلبه من الكد والتعب ليس هذا خاصًا بالعِلْم بل عالي جميعًا كذلك:

بقدر الكد تُكتسب المعالي ومن طلب العُلا سهل الليالي
ومن رام العلوم بغير كدٍّ أضاع العُمر في طلب المُحالِ

فينبغي للإنسان أن يبذل ما استطاع من الجِد والاجتهاد في تحصيل ميراث النبوَّة، وينبغي أن يتحلَّى بالآداب التي ذكرها أهلُ العِلْم في طلب العِلْم وأولها: إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، العِلْم عبادة لا ينبغي أن تكون لغير وجه الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي ﷺ: «مَن تعلَّم عِلمًا مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا لينال به عرضًا من الدنيا لم يجد عرْف الجنة يوم القيامة» الحديث أخرجه أبو داود بسندٍ صحيح أي رائحتها -والعياذ بالله- يوم القيامة.

فينبغي للمسلم أن يُخلص النية لله سبحانه وتعالى، وهذه أول وصيةٍ يُوصى طالب العِلْم، ولأجل ذلك افتتح كثيرٌ من أهل العِلْم كُتبهم بحديث النيِّات افتتح الإمام البخاري صحيحه بحديثه: «إنما الأعمالُ بالنيات» وافتتح به أيضًا كذلك المقدسي «عمدة الأحكام» وافتتح به الإمام النووي «الأربعين النووية» وافتتح به أيضًا به «رياض الصالحين» فكثيرٌ من أهل العِلْم وضعوا حديث (النيات) في أول كتب لماذا؟ لينتبه طالب العِلْم إلى أنه ينبغي أن يُصحح النية في بداية طلبه، فينبغي في بداية طلب العِلْم أن يُصحح النية، فلذلك أول ما يقرأ عليك حين تقرأ «صحيح البخاري» هو قول النبي ﷺ: «إنَّما الأعمال بالنيات وإنما لكلِ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه». هذه الرواية التي صدَّر بها الإمام البخاري عن الحُميدي، وقد جاء به كاملاً في أبواب أخرى.

وأول ما يمر عليك في الأربعين النووية نفس الحَدِيْث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دُنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها» وفي رواية: «ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فلابد أن يُصحح طالب العِلْم النيَّة، وأن تكون نيته خالصةً لوجه لله سبحانه وتعالى، ولابد أن يعلم طالب العِلْم أنه لا يُمكن أن يبدأ وهو مبجل مكرم بل لا بد أن يذوق ذل التعلم وكما قال الشاعر ومن لم يذق ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل طول حياته لذلك لا ينبغي أن يستحي في طلب العِلْم لأن الحياء في طلب العِلْم مذموم وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدِّين، والعِلْم لابد أن يَتعب صاحبه وقد قصَّ الله سبحانه وتعالى علينا رحلة نبي الله موسى عليه السلام، وأنه سافر ولقي في سفرِهِ نصبًا حين سافر إلى ذلك العبد الصالح وهو الخَضِر ليأخُذ منه العِلْم فتعِبَ في ذلك السَّفر، فالعلم يحتاج إلى تعب وتأدب مع معلمِه أيضًا،  ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، أولًا: لمٌ يقل له: علمني قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ولم يقُل: ما عُلمت أو كل ما عُلِّمت، فالأدب مع المُعلِّم هو من سُنن الأنبياء، فينبغي للإنسان أن يأخُذ من هدي الأنبياء ومن هدي الصالحين آداب طالب العِلْم، ومن ذلك الأدب مع الشيخ وعدم الإكثار عليه في السؤال، وعدم الإكثار عليه في الدرس حتى يضجر، ويمل، وقد قال الإمام الحافظ ابن الصلاح أن مَن فعل ذلك أي من أكثر على الشيخ حتى ملَّ وضجِر أنه يُخشى عليه ألا ينتفع بذلك العِلْم الذي أخذ عنه قال الإمام العراقي: «وقد جربتُ ذلك بنفسي» يعني أنه في بعض المرات كان لحرصه على العِلْم يُكثر على بعض المشايخ، فيتحملون حتى يقع منهم سأم، فإذا فَعَل ذلك لاحظه بنفسه أنه قل ما ينتفع بذلك الذي أخذ منه في حالٍ ضجرٍ وسآمة.

ثم ينبغي أن يُعلم أن العِلْم لابد فيه من الحفظ والفَهْم والتَّعليم والعمل.

الحفظ لابد أن يحفظ الإنسان، وقد قال النبي ﷺ لوفد عبد قيس حين علمهم شرائع الإسلام قال: «احفظوه وأخبروه من ورائكم» أي احفظوا ما علمتكم من شرائع الإسلام، وأخبروا من وراءكم علموا من ورائكم أي علِّموا أهلكم حين تقدمون عليهم فأمرهم بالحفظ أولًا قال: «احفظوا» فهذا مما يُستدل به على أهمية الحفظ، وقديمًا قال الإمام الشافعي ؒ تَعَالَى:

عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يتبعني صدري وعاءٌ لا جوف صندوقِ
إن كنتُ في البيت كان العِلْم فيه معي أو كنتُ في السوق كان العِلْم في السوقِ

وقال ابن حزم ؒ تَعَالَى:

فإن يُحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيثُ استقلَّت ركائبي ويمكث إن أمكُث ويُدفن في قبري

وكانوا يقولون:

ليس بعلمٍ ما حوى القِمطرُ ما العلمُ إلا ما حواه الصَّدر

القِمَطر وعاء الكتب. فالعِلْم ليس هو ما يوجدُ في أوعية الكتب وإنما العِلْم هو ما استقرَّ في صدرك.

والعِلْم فازت به الحُفاظ، فلا يسمى عالمًا إلا من كان يستظهر الأمور عن ظهر غيب، ويستحضر المسائل دون أن يرجع إلى الكتب أو إلى هذه الأجهزة، وأما مَن يأخذ علمه من الكتب أو من الأجهزة فهذا نُسميه باحثًا كما يقول النَّاس اليوم، لكن لا يسمى عالمًا العِلْم يُؤخذُ عن الرجال ومن بطون الكتب، ثم يُحفظ ويُفهم، فهذا هو العِلْم والحفظ ليس له طريق إلا التكرار يُكرر الإنسان والنَّاس يتفاوتون في ذلك، فمنهم إما أن يُسهل الله عليه الحفظ فهو يحفظ بتكرار النسيان، وبعضهم يحتاج إلى أن يستكثر من التكرار فينبغي للإنسان إذا عَرَفَ عادته في ذلك أن يلزم ما تقتضيه تلك العادة، فإذا كان ممن يحفظون بالكثير فإنه يحتاج إلى الكثير فإذا كان يحفظ بما هو دون ذلك من التكرار يحفظ بما هو دون ذلك وكلما استكثر فهو خيرٌ له، ويكون ذلك أكثر ثبوتًا لِمَا حفظ.

وينبغي أن يتحرى الإنسان الأوقات التي  هي أكثر سكونًا وسكينةً وهدوءًا كأوقات الصباح الباكر باكر ونحو ذلك من الأوقات التي لا يكون الإنسان فيها مشغولًا بهمٍّ أو خاطر، ويكون الجو خالٍ وهادئ، فهذا مما يُعين على الحفظ -بإذن الله تَعَالَى- ثم لابد من تثبيت الحفظ وبعض النَّاس يشكو من تفلُّت المحفوظات لابد من تثبيت الحفظ، وتثبيت الحفظ يكون باتخاذ هذه المحفوظات أورادا يكررها الإنسان في مواقيت محددة فإن استطاع الإنسان أن يستظهر كل شهرٍ جميع محفوظاته فبها ونعمة، وإلا فعليه أن يضع لها وقتًا يُراجعها فيه ويتعاهدُها فيه فإنها تتفلَّت منه إذا لم يتعاهدها، فمراجعة هذه المحفوظات ووضع جدولٍ لذلك مما يُعين الإنسان على تثبيت الحفظ، وبعض النَّاس أيضًا يَسهُل عليه الحفظ سماعًا فلا بأس أن يُحوِّل المادة إلى مسموع، أو أن يستمع إلى صوت من يثق في صحة ما يُنشد أو يقرأ فيستعين بذلك على الحفظ فلا بأس بذلك، ولابد من الفهم وأول الفَهْم قراءة النَّص قراءةً صحيحة لأن الإنسان إذا أخطأ في قراءة النص سيكون الفهم تابعًا بذلك الخطأ، فأول خطوة في الفَهْم هي أن يقرأ الإنسان النص قراءةً صحيحة، ثم أيضًا يقرأه على الشيوخ، فلا ينبغي أن يبدأ الإنسان بالقراءة من الكتب فالقراءة من الكتب تُعرِّض الإنسان للتصحيف كما قال أبو حيان:

يَظُنُّ الغُمْرُ أنَّ الكُتْبَ تَهْدِي أَخَا فَهْمٍ لِإِدْرَاكِ العُلُومِ
وَمَا يَدْرِي الجَهُولُ بِأَنَّ فِيهَا غَوَامِضَ حَيَّرَتْ عَقْلَ الفَهِيمِ
إِذَا رُمْتَ العُلُومَ بِغَيْرِ شَيْخٍ ضَلَلْتَ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ
وَتَلْتَبِسُ العُلُومُ عَلَيْكَ حَتَّ تَصِيرَ أَضَلَّ مِنْ تُومَا الحَكِيم ِ

وقديمًا كانوا يقولون: لا تأخذ العِلْم عن صحفي ولا القرآن عن مُصحفي» «لا تأخذ العلم عن صحفي» الصحفي هو الذي يأخذ علومه من الصُّحف دون أن يسمعها من الرجال أو يقرأها على الرجال، فالعلم من أفواه الرجال لا من بطون الكتب.

«والمصحفي» هو الذي يقرأ القرآن من المصحف دون أن يقرأه على شيخ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يقرأ النَّص قراءةً صحيحة، وأن يقرأه أول مرةٍ على شيخ ثم لا بأس بعد ذلك أن يُراجع الشروح، بل ينبغي أن يُراجع الشروح لتثبيت فهم ما قرأه، وأن يُطالع في ذلك العِلْم الذي يقرأ فيه، وينبغي أيضًا أن يُذاكر أصحابه من أهل العِلْم ومن طلاب العِلْم، فالمذاكرة مُفيدة تنفع الإنسان وتحل له كثيرًا من الإشكالات وينتفع بها الإنسان إذا وَجَدَ من يذاكر هو من طلاب العلم في درسه، وإذا لم يجد من يُذاكره في درسه فليجرد مخاطبًا من نفسه وهذه طريقة معمولٌ بها عندنا في بلاد الشنقيط إذا قرأ الطالب درس ولم يجد شخصًا يُذاكره فإنه يجلس مثلًا تحت ظِل شجرة ويُجرد مخاطبًا من نفسه فيقرأ بصوتٍ ذلك الشرح يُعيد بصوت ذلك الشرح الذي سمعه من الشيخ ويُكرر ذلك الشرح عدة ونسميه التكرار وهو معمولٌ به ومجربٌ لتثبيت فهم النص وحفظ مسائل الشرح مما يُفيد أيضًا كذلك بعد الدَّرس بعد تصحيح المتن وقراءته على الشيخ ومطالعة الكتب ومذاكرة الطُّلاب أن يُحاول الإنسان التدريس إذا رأى في نفسه الأهلية لذلك، والمراد بالتدريس هنا أن يُدرِّس هذا الكتاب الذي درسه، لا أن يتصدر للتدريس بحيث ينصب نفسه شيخًا، فهذه مكانةٌ لا ينبغي للإنسان أن يُسارع إليها حتى يعرف الأهلية من نفسه أو يُرشَّح من أهل العلم لذلك، لكن مثلًا هل أنت درست كتاب الآجرومية أو كتاب الورقات حاول أن تُدرس هذا الكتاب، فتدريسك للطلاب لهذا الكتاب مُعينٌ ومُفيدٌ -بإذن الله تَعَالَى- على تفهُّم هذا الكتاب.

 مما ينبغي أن يَعتني به طالبُ العلم أن يأخذ من كل علم بطرف، فابتُلي طلاب العلم اليوم بمسألة التخصص ولا نلومها على الإطلاق بأن نقول: إنه لا ينبغي لطالب العلم أن يتخصص لكن أيضًا ينبغي لطالب العلم أن يأخذ من كل فنٍّ بطرف، فهناك قدرٌ من العلم ينبغي أن يُحصله طالب العلم من كل فن من فنون الشَّريعة ومن آلاتها، ثم بعد ذلك إذا بدا له أن يتفرَّغ لمطولات فنٍّ من الفنون فلا بأس، لكن لا ينبغي أن تتخصص بالتفسير وأنت لم تدرُس الآجرومية ولم تدرس الورقة، أو أن تتخصص في الحَدِيْث وأنت لم تدرس شيئًا من هذين الكتابين، أو أن تتخصص في النحو وأنت لم تدرُس مقدمةً في الفقه لا تعرف مقادير الزكاة ولا تعرف فرائض الصَّلاة، لا بد أن يأخذ طالب العِلْم من كل فنٍّ بطرف، فإذا حصَّل القدر الوسط من علوم أصول الشرع وعلوم آلاته، فإنه لا بأس بعد ذلك أن يتخصص في فنٍّ من الفنون، وينبغي لطالب العِلْم أن يُقبل على شأنه وألا يشغل بتقويم النَّاس وتجريح الشيوخ، فهذا مما ابتُلي به كثير من طلاب العلم اليوم –للأسف- يشتغلون بمعايب بعض الشيوخ ويتحدثون عن الشيخ الفلاني وعن الشيخ الفلاني، فيُنفرون طلاب العلم من الأخذ عن الشيوخ، وهذا خطأ جسيم وخللٌ في المنهج ينبغي أن يُقبلوا على شأنهم أولًا، وأن يدرسوا العِلْم، فإذا أصبحوا عُلماء فإنهم يُمكن بعد ذلك أن ينصحوا طلاب العِلْم، أما وأنت ما زلت طالب تتفنن في معايب النَّاس وتزجر عن المشايخ، فهذا ليس من طلب العِلْم وليس من آداب طلب العِلْم، وهو نذير شؤم وسوء بالنسبة لطالب العِلْم.

كذلك لا ينبغي لطالب العلم أن يتسرع في الفتوى، وأن يتسرع بالأحكام، فلابد أن يتروى وألا يتأهل لشيءٍ من ذلك حتى يعلم أنه أصبح أهلًا لذلك وحتى يؤهله العلماء الذين يعرفونه والذين هم أهلٌ لذلك.

أيضًا لابد من العمل العلم ثمرته هي العَمَل، فإذا كان الإنسان يتعلَّم وهو في نفسه لا يعمل بمقتضى عملِهِ، فهذا ينبغي أن يعلم أن مثله كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، فينبغي للمسلم أن يربأ بنفسه أن يكون مثله كمثل الحمار الحِمَار، الحمار يحمل الأسفار أي: الكتب ولكنه لا ينتفِعُ بها ولا يُدرك مدى فائدتها فلا يحصل له من حمْل الأسفار إلا والتعب، فكذلك العالم الذي لا يعمل يحصل له العَنَاء في تحصيل العِلْم، وفي طلب العلم ولا يحصل من العِلْم على ثمرة، لأن ثمرة العلم هي العبادة وهي العمل أن يعمل لوجه الله سبحانه وتعالى بذلك وأن يبتعد عن المعاصي، ومما يُروى وينسب إلى الإمام الشافعي ؒ تعالى قوله:

شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترْك المعاصي
وأخبرني بأن العِلْم نورٌ ونورُ الله لا يُهدى لعاصي

نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم ويحفظنا وإياكم ويجعلنا وإياكم وأن يجعلنا وإياكم من أهل الهمم العالية ومن العلماء الربانيين العاملين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وبارك الله فينا وفيكم السلام عليكم.

الأسئلة

 السُّؤال:  كيف نجمع بين التزكية وطلب العلم في القراءة العلمية؟

الجَوَاب: لابد للإنسان أن يأخذ بمقتضى تزكية النفس بأن يأخذ من العلوم التي تُهذِّب النفس وترققها من علوم الوحي، ومن الرقائق ما تخلُص به نيته لله سبحانه وتعالى، ويُعينه على السير في الطريق الصحيح، ولكن أيضًا ينبغي أن يجعل حظًّا من وقته لدراسة العلوم حتى ولو كانت بعيدة نسبية عن مجال التزكية، فالجمع بين ذلك يكون بإعطاء كل فنٍّ من ذلك قسطًا من الوقت.

السُّؤال: كيف ينظم طالب العلم وقته في طلب العِلْم؟

الجَوَاب: بعض النَّاس يشكو من ضيق الوقت، في الحقيقة الأوقات لا يوجد أحد أضيق وقتًا من غيره، لكن يختلف النَّاس في ترتيب الأوقات وبعضهم يُوفقه الله سبحانه وتعالى في ذلك بأن يؤخِّر الأشياء التي ليستْ مهمة، ويُقدِّم ما هو أهم ويُرتِّب الأشياء التي يُريدها بحسب أهميتها وبحسب إلحاحها وبحسب ما هو مُعرَّضٌ منها للفوات مما ليس مُعرَّضًا للفوات فيُقدِّم الإنسان الأهم كما قال الراجس:

وقدِّم الأهم إن العُمر جَم والعمرُ ضيفٌ زارَ أو طيفٌ ألمّ

 ينبغي للإنسان أن يُقدِّم الأهم فالعلوم جمةٌ كثيرة والعُمر قليل هو بمنزل ضيفٍ يزور وينصرف أو بمنزل طيفٍ يزور الإنسان في منامِهِ ثم يذهب، فلابد أن يُرتِّب الإنسان الأمور بحسب أهميتها فيُقدِّم الأهم فالمُهم ويُقسِّم أوقاته تقسيمًا يُمكنه من ذلك، وفي هذا الزَّمن لابد أن يتقلل الإنسان من هذه الشواغل التي تسرق أوقاتنا وهذه الهواتف والأجهزة التي أصبحت تغتصب منَّا أوقاتنا وتسرق أوقاتنا، فلابد للإنسان أن يتقلل منها، وأن يكون عنده أوقات لا يفتح بها هذه الأجهزة على الإطلاق.

السُّؤال: طلاب الجامعات هذه الأفضل لهم الحفظ أو المطالعة؟

الجَوَاب: الأفضل لهم في ماذا؟ إذا كان الأفضل لهم في تفوقهم وفي رحلتهم الدراسيَّة الجامعية فهذه غالبًا يحتاجون فيها إلى تفهُّم المواد وتلخيصها أكثر من حاجتهم إلى الحفظ، لكن إذا كانوا يُريدون الأفضل لهم من حيث طلب العلم فإن طلب العلم لابد فيه من الحفظ لابد من حفظ المتون فيضع الإنسان لنفسه منهجيةً للحفظ والأهم في الحفظ هو مسألة الدَّوام ولو قَلَّ تصوَّر لو أنك تحفظ في كل يوم بيتين فقط بيتين من الشاطبية أو من «ألفية ابن مالك» أو من «ألفية العراقي» في الحديث بيتين فقط يوميًّا فإنك بعد فترة ستجد نفسك قد حفظت كثيرًا وعلمًا جزيلًا فأهم شيء هو الدوام ولو قَل.

السُّؤال: النية شيء في القلب كيف يفعلها الإنسان فيها لتكون خالصةً لله سبحانه وتعالى وكيف يخرج الإنسان رغبته بالنجاح …. ؟

الجَوَاب: النية أمرٌ قلبي وانفعالٌ وليستْ فعلاً حتى يتصرف الإنسان فيه ويُقلله كيف شاء، لكن الانفعالات القلبيَّة لها أسباب ودواع ودوافع، النبي ﷺ حين ندبنا إلى المحبة في الله والحب انفعالٌ وليس بفعل، علَّمنا أسباب الحب فقال: «تهادوا تحابوا» وقال: «ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم»، فكذلك أيضًا حين يستحضر الإنسان عظمة العِلْم وأهميته، وحين يستحضر أنه عبدٌ لله مطالبٌ بأن يسعى في مصالحة الدُّنيوية والأخروية بعيدً عن الأهواء هذه الأمور استشعارُها يُعين الإنسان على تصحيح الهمة، كذلك أيضًا ما ذكرنا من الخُلة الصالحة والصداقة الصالحة، كذلك أيضًا ما ذكرنا من قراءة سير الصالحين؛ فهذه كلها تعين الإنسان على تصحيح نيته.

السُّؤال: «مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله به طريقًا إلى الجنة» هل المقصود العلم الشرعي خاصَّةً؟

الجَوَاب: لا نقول ذلك، المقصود هو كل علم ينتفع به النَّاس، فالعلوم المقصود بها العلوم النافعة هناك علوم شر، السحر مثلًا، والشعوذة ونحو ذلك هذه لا خير فيها مطلقًا، العلوم النافعة سواءً كانت علومًا شرعيةً كالفقه والتفسير والحديث وكالات العلوم الشَّرْعيَّة، أو كانت دُنيوية كالحساب والاقتصاد والرياضيات والفيزياء والكيمياء.. ونحو ذلك هذه كلها علومٌ نافعة منها ما هو فرضُ عين ومنها ما هو فرض كفاية، فهي على كل حال: فرض، فرض العين هو ما يخص كلُّ إنسانٍ في خاصة نفسه، فيجب على كل مسلم أن يعلم كيف يتوضأ كيف يُصلِّي، كيف يصوم ، كيف يزكي،  كيف يحج، هذا فرض عين يتوجه إلى كل مسلم، وفروض الكفايات: هي سائر العلوم النافعة التي لا يحتاج إليها الإنسان خاصَّة في دينه سواءً كانت شرعيةً كعلم الأقضية والتركات هذا من فروض الكفايات، أو كانت دُنيويةَ كعلم الاقتصاد وغير ذلك من العلوم الدنيوية النافعة، علم الطب وعلم الهندسة وغير ذلك وقوله ﷺ: «مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا» هذه نكرةٌ في سياق الإثبات يُعبِّر عنها الأصوليون بأنها من قبيل المطلق،  والمُطلق له عمومٌ بدليٌّ كما هو مُقرر في علم أصول الفقه أي: كل ما يُسمى علمًا فإن الله تعالى يُثيبه عليه بذلك.

السُّؤال: هل تنصحون بالحفظ وإن كان سابقًا للفهم إذ من النَّاس من يثبت وعنده يفهمه؟

الجَوَاب: هذا مما يختلف النَّاس فيه على كل حال: الحفظ ينبغي أن يكون بعد تقويم النص تقويمًا صحيحًا إذا أحب الإنسان أن يكون قبل الفهم قبل الدرس فله ذلك، وإذا كان يعينه على الحفظ أن يتفهم أولًا فتفهم وقرأ ثم بعد ذلك حفظ فلا بأس بذلك.

السُّؤال: كيف تدرس النساء دون شيوخ بعد التخرج من الجامعة؟

الجَوَاب: الحمد لله الشيوخ لم يعُد النَّاس محتاجون لمجالستهم وجهًا لوجه، العلم أصبح موجودًا على هذه الشبكات وعلى هذه الهواتف، ينبغي ألا تسرق منَّا أوقاتنا لكن ينبغي في نفس الوقت أن نأخذ منها المفيد، فالنساء اليوم لا يحتجن إلى مجالسة عالمٍ وجها لوجه بل يمكن أن يدخلن على أي قناة من قنوات المشايخ المعروفين الذين يُوثق في علمهم وأمانتهم فيأخذن عنهم العِلْم، وإذا كانت لديهم أسئلة فهناك بعض المؤسسات والقنوات التي تُبعث إليها الأسئلة وتصقل عن طريقها، وبعض المشايخ لديهم بريد ووسائل يستقبلون فيه الأسئلة فالأمور الحمد لله أصبحت أسهل بكثير مما كانت عليه.

السُّؤال: كيف نوضح للشيخ إذا أخطأ في مسألة من المسائل ؟

الجَوَاب: إذا أخطأ الشيخ فإنه يُنبَّه على ذلك بأدب، ومن الأحسن أن يُنبَّه وحده دون أن يُغلَّط أمام النَّاس، وفي الغالب إذا كان من أهل الدِّيانة فإنه إذا نُبه فإنه يرجع وكثيرًا ما يرجع أمام النَّاس، ويقول لهم: لقد نبهني بعض الطلاب على أنني ذكرتُ هذه المسألة خطأ فيُنبَّه، لكن الأحسن أن ينبه منفردًا وألا يُغلط أمام النَّاس، فإن ذلك مما يُضعف هيبة النَّاس به، وهذا ليس من مصلحة طلاب العلم أن تنزع هيبة شيخهم منهم، فذلك مما يُضعف هممهم ويُفسد عليهم.

السُّؤال: كيف يصير طالب العلم إلى التلذذ والاستئناس بالعلم كما يستأنس ويتلذذ بدنياه ؟

الجَوَاب: العلم له لذة لكن لا يذوقها إلا مَن قطع فيه شوطًا بهمةٍ وصدق، فإذا قطع الإنسان شوطًا بالعلم، وكانت همَّته صادقة فإنه يتلذذ بالعلم، بحيث تصبو نفسه إلى الكتاب الفلاني، وإذا إلى مطالعة الكتاب الفلاني، ويجد قراءة هذا الكتاب مُسليًا ومفيدًا بالنسبة له، لكن هذا لا ينال -كما قُلْنَا- إلا بالصبر أول الأمر، ثم بالنية الصادقة والصالحة.

السُّؤال: هل تذكرون لنا كُتبًا تحضُّنا على طلب العِلْم؟

الجَوَاب: الكتب التي أُلفت في طلب العلم مثلًا كتاب «جامع بيان طالب العلم وفضله » لابن عبد البر، وكذلك كتب الآداب والأخلاق هذه كلها مليئة بآداب طلب العِلْم، ومليئة بفضل العِلْم.

نَقْتَصِر عَلَى هَذَا القَدْر إنْ شَاء الله.

سُبْحَانَك اللَّهُم بحمدِك نَشْهَدُ أن لا إله إلا أنَتْ نستغفرك ونتوبُ إلِيْك.

تحميل التفريغ بصيغة pdf
Scroll to Top