أهميةُ الحفظِ، وطرقُه ووسائلُه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل المُرسلين وخاتم النبين وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

أولًا: نستحضر النية في مثل هذه الجلسات فهي مكتوبةٌ مشهودةٌ إن شاء الله.

وقد صح عنه ﷺ أنه قال: «ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».

كلمتي ستكون عن «الحفظ وأهميته في طلب العِلْم» وعن بعض طُرقه ووسائله وما يُعين عليه.

ومن المعلوم أن العِلْم حفظٌ وفهمٌ وتنزيل.

العِلْم حفظ يحفظ الإنسان النصوص الشَّرْعيَّة والأدلة ويحفظ المسائل وفهم، لابد أن يفهمها أيضًا فإذا لَمْ يفهم فإنه لا يُسمى فقيهًا ولا عالمًا: «رُب حامل فقهٍ ليس بفقيه» فالإنسان يُمكن أن يكون حاملًا للفقه لكنه ليس فقيهًا.

ولابد أيضًا من معرفة التنزيل معرفة كيف نُنزل النصوص الشَّرْعيَّة على وقائع النَّاس وأحوالهم وعلى نوازلهم، فإذا استجمع الإنسان الحفظ والفهم والقدرة على التنزيل كان عالمًا حقًّا.

ومن أهم هذه الأمور: حفظ النصوص الشَّرْعيَّة وحفظ المسائل، وذلك أن الشَّرْع قسمان:

  • قسم: نقلٌ محض لا مجال للعقل فيه.
  • وقسمٌ يحتاج إلى عقلٌ ونقل.

فمسائل الشَّرْع منها ما هو نقلٌ محض لا مجال للعقل فيه.

ومنها: ما هو نقلٌ وعقل أي: يحتاج إلى نقلٍ ويحتاج إلى فهمٍ وتدبرٍ وقُدرةٍ على التنزيل، فنلاحظ هنا أن النقل وجدناه في الحالتين معًا، ففي كلتا الحالتين يوجد نقل إما نقلٌ مُجردٌ وإما نقلٌ وعقل.

وقد دعا النَّبيِّ ﷺ لحفظة السُّنَّة وحفظة الدِّين فقال ﷺ: «نظَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها» ومعناها قوله: «وعاها» أي: حفظها فهذا دعاءٌ من النَّبيِّ ﷺ لمن حفظ السُّنَّة وحفظ العِلْم، أن يكون وجهه من الوجوه الناظرة إلى ربها الكريم.

وقال النَّبيِّ ﷺ لوفد عبد القيس عندما وفدوا عليه فعلمهم شرائع الإسلام قال: «احفظوه وأخبروا به من وراءكم» فأمرهم بأن يحفظوا هذا العِلْم الذي استودعهم إياه وأن يُبلغوه وقال ﷺ: «ليُبلغ الشاهد منكم الغائب»، فهذ الشَّريعة مبنيةٌ على النقل والتبليغ، فلابد من حفظها.

ولذلك كان أكثر الصحابة علمًا ونفعًا أكثرهم حفظًا، فمن المعلوم أن أكثر النَّاس روايةً عن النَّبيِّ ﷺ هو أبو هريرة رضي الله عنه، ولم يكن من أهل الحفظ حتى دعا له رسول الله ﷺ فقد كان يُحب أن يحفظ حديث رسول الله ﷺ ويشق عليه أنه لا يستطيع فذكر ذلك للنبي ﷺ فأمره النَّبيِّ ﷺ أن يبسط ثوبه وتفل له فيه، وأمره أن يضمه إلى صدره فلم ينس شيئًا سمعه من رسول الله ﷺ بعد ذلك، فكان أبو هريرة أعلم أصحاب رسول الله ﷺ بالسنن وأكثرهم روايةً عنه ﷺ.

وكذلك سائر المُكثرين من أصحاب رسول الله ﷺ وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وأُمنا عائشة رضي الله عنها وسابعهم هو أبو سعيد الخدري فهؤلاء السبعة هم أكثر النَّاس روايةً عن رسول الله ﷺ حفظوا السُّنَّة ونقلوها وتلقت الأمة علمهم واستفادت منهم، مع أن بعض أصحاب رسول الله ﷺ كان يكتب ولكن استفادة الأمة من الحفظة كانت أكثر، فأبو هريرة رضي الله عنه ذكر أنه لا يعلم أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ هو أكثر روايةً عن النَّبيِّ ﷺ منه قال: «إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب».

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه من فُضلاء الصحابة ومن فقهائهم وكان يكتب حديث رسول الله ﷺ في الصحف ومع ذلك فهو ليس من الستة الذين هم أكثر النَّاس روايةً عن النَّبيِّ ﷺ وليس من السبعة الذين هم أكثر النَّاس روايةً عن النَّبيِّ ﷺ وليس معدودًا فيهم.

وهذا العِلْم حفظه الله سبحانه وتعالى بحفظ الحُفاظ، فالقرآن الكريم لَمْ يُجمع على عهد رسول الله ﷺ ، وإنما جُمع في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسبب جمع القرآن الكريم هو: أن المسلمين قاتلوا في معركة عظيمةٍ يُقال لها: معركة اليمامة، قاتلوا فيها بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وكان بنو حنيفة من أشد النَّاس بأسًا ومن أصبرهم في الحرب، فوقعت مقتلةٌ عظيمة في أصحاب رسول الله ﷺ حتى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه أخبر بعد ذلك أنه قاتل فارس والروم وأنه لَمْ يجد قومًا أصبر على الحرب من بني حنيفة الذين قاتلهم المسلمون في معركة اليمامة.

في هذه المعركة استحرَّ القتل في أصحاب رسول الله ﷺ وكثُر القتلى في القُراء في حفظة القرآن الكريم قُتل كثيرٌ من حفظة القرآن الكريم في هذه المعركة، فعند ذلك تذاكر أبو بكر رضي الله عنه وعمر ما وقع من ذلك، وأن القتلى قد استحرَّ في القُراء، وخشي أن يذهب القرآن، فأمر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن وهو رَجُل من الأنصار شابٌّ كيس عاقلٌ كان من كُتاب وحي رسول الله ﷺ ، فأمراه أن يجمعا المصحف خشية أن يذهب القرآن بذهاب القراء.

وأيضًا كذلك السُّنَّة النبوية لم يبدأ تدوينها إلا بعد مرور ما يُناهز مائة من الهجرة في خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحَكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعلومٌ أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله إنما حكم سنة تسع وتسعين للهجرة، فهو الذي كتب إلى شهاب الزهري وإلى فقهاء الأنصار أن يجمعوا ما تناهى إليكم من أحاديث رسول الله ﷺ وقبل ذلك في هذه المائة كانت سُنة رسول الله ﷺ حفظًا وكانت تُنقل ينقلُها الحُفاظ للحفاظ ولم تكن مدونةً، فبدأ تدوين السُّنَّة من ذلك العهد، وقد قيَّد الله سبحانه وتعالى لهذه في السُّنَّة رجالًا حفظة، أعطاهم قوَّة الحفظ والفهم والنماذج من ذلك لا تُحصى فمن ذلك: امتحانُ أهل العراق للإمام البخاري رحمه الله تعالى الذي ذكره الإمام العراقي رحمه الله تعالى في ألفيته حيث قال:

وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ نَحْوُ: امْتِحَانِهِمْ إمَامَ الفَنِّ
في مائَةٍ لَمَّا أتَى بَغْدَادَا فَرَدَّهَا، وَجَوَّدَ الإسْنَادَا

الإمام العراقي رحمه الله تعالى وفد على بغداد فسمع به علماء العراق فتداعوا إلى امتحانه بما بلغهم من حفظِهِ وجاءوا بمائة حديث قد قلبوا أسانيدها فوضعوا إسناد هذا الحديث لهذا الحَدِيْث، وإسناد هذا الحديث لهذا الحديث حتى لم يتركوا منها حديثًا بإسناده الأصلي، ثم عرضوها عليه فقالوا: أتعرف هذه الأحاديث؟ فكان كلما عرضوا عليه حديثا بالسند الذي يقولونه يقول: لا أعرفه بدؤوا بالحديث الأول لا أعرفه الحديث الثاني لا أعرفه الثالث لا أعرفه الرابع لا أعرفه حتى إن بعض الحاضرين رحم البخاري وأشفق عليه بأنه فشل في الاختبار كل هذه الأحاديث يقول: لا أعرفُها حتى انتهت المائة فلما انتهت قال: أما الحديث الأول فأحفظه من رواية فلان عن فلان عن فلان عن النبي ﷺ ، وأما الحديث الثاني فأحفظه من رواية فلان عن فلان عن فلان عن النبي ﷺ حتى رد إلى تلك المائة أسانيدها جميعًا.

ومن ذلك قصة الدار قطني المشهورة أنه كان في مجلس إسماعيل الصفار فكان إسماعيل يُملي عليه، وكان الإمام الدار قطني يكتب الحَدِيْث، في نهاية المجلس قال له بعض طلاب الشيخ: لا يصح سماعُك لأنك تنسخ تكتب وهل تعي ما تكتب فقال له الدار قطني أتعرف كم أملى الشيخ؟ أي كم عدد الأحاديث التي أملاها؟ قال: لا، قال إنه أملى ثمانية عشر حديثًا:

أما الحديث الأول فهو من رواية فلان عن فلان عن فلان وسردها من حفظه مجودة، فدل هذا على قوة حفظه رحمه الله تَعَالَى.

والعلم فازت به الحُفَّاظ، العالم هو الذي يستحضر المسألة حين يُسأل عنها لا الذي يبحث عنها للكتب، أو في الأجهزة، هذا يسمى باحثًا وكلُّ أحد يمكن أن يتقنه، العالم هو الذي إذا سُئل في الطريق أفتى وإذا سُئل في الشارع أفتى وإذا سُئل في السيارة أفتى فعلمه معه كما قال الشاعر:

أَبَحتَ حِمى تِهامَةَ بَعدَ نَجدٍ وَما شَيءٌ حَمَيتَ بِمُستَباحِ
عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يتبعني صدري وعاءٌ لا جوف صندوقِ
إن كنتُ في البيت كان العِلْم فيه معي أو كنتُ في السوق كان العِلْم في السوقِ

هذا هو العِلْم أن يكون العلم معك حيثما تيممت وحيثما دُرت وقصدت، إن كنت في البيت كان علمُك معك، وإن كنت في السوق كان العِلْم معك في السوق أيضًا.

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله:

فإن يُحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيثُ استقلَّت ركائبي ويمكث إن أمكُث ويُدفن في قبري

فعلمه معه يسير معه حيث سار، فهذا هو العِلْم، العلم الذي يحفظه الإنسان ويثبت في الصدور.

والحرف في الصدر يفوق ألفا بل ألف ألفٍ في الكتاب تُلفى

 وقال بعضهم:

ليس بعلمٍ ما حوى القِمطرُ ما العلمُ إلا ما حواه الصَّدر

القُمطر وعاء الكتب.

والعلم هو العِلْم الذي في الصدور.

وقال شاعر آخر:

عليك بالحفظ دون العِلْم في كتبٍ فإن للكُتب آفاتٍ تُفرِّقها
فالماء يُغرقها والنار تُحرقها والفأر يخرقها واللص يسرقها

 هذه آفات الكتب: الماء يُغرقها ما أكثر الكتب التي ضيَّعها الماء وأغرقها وأفسدها، والنار تُحرقُها وقد احترقت مكاتب رجال احترقت مكتبات عظيمة بعض أهل الحديث نشأ اختلاطه عن احتراق كُتبِهِ لأنه كان يُحدِّث أصلًا من كتبه فاحترقت كتبه فنشأ له الاختلاط عن ذلك.

(الماء يغرقها والنار تحرقها والفأر يخرقها واللص يسرقها) لكن ما في صدرك وحويته لا يستطيع سارقٌ أن يصل إليه ولا يُفسده عليك ماءٌ ولا نارٌ ولا شيءٌ من الآفات التي تَسري إلى الكتب، فالعلم فازت به الحُفَّاظ لذلك لابد للإنسان أن يُشمِّر وأن يجتهد في تحصيل هذا العلم وطُرق الحفظ كثيرة ومُتعددة وهي تدور على التكرار والتكرار هو: أساس الحفظ، لكن تختلف طُرق النَّاس في هذا التَّكرار وهناك طُرق مشهورة:

منها أن الإنسان يُقسِّم الكتاب مثلًا إلى دروس، ويأخذ كل درس ويُحاول أن يحفظه وألا يتجاوزه إلى الدرس الثاني حتى يكون قد استقر في ذهنِهِ هذه طريقةٌ مشهورة معروفة.

الطريقة الثانية: أن يحفظ الإنسان المقطع على أزمنةٍ متفاوتة يعني على أيام، وهذه طريقةٌ مشهورة عندنا في بلاد الشنقيط وخصوصًا في حفظ القرآن الكريم وأيضًا كذلك في حفظ المتون الشرعية أن تأخذ مثلًا هذا الكتاب فتكتب الدرس الأول في اليوم الأول تقرأ ما تيسَّر لك بعددٍ مُحدَّد تختلف بحسب الأشخاص مثلًا إما أن تُكرر خمسين مرة إلى مائة مرة بعضهم يزيد، في اليوم الثاني تأخذ درسًا آخر طبعًا لا تُبالي في اليوم الأول هل حفظت أم لم تحفظ المهم عندك عدد مُعين ينبغي أن تأخذه من التكرار في اليوم الأول مثلًا مائة مرة تقريبًا أو خمسين مرة بحسب الأشخاص يعني يختلفون.

في اليوم الثاني تأخذ درسًا جديدًا وتقرأه بنفس العدد الذي قرأت به في اليوم الأول، ثم تأخذ درس أمس وتقرأه لكن بعددٍ أقل يعني مثلًا أمس قرأت مائة اليوم تقرأ درس أمس بخمسين.

في اليوم الثالث تأخُذ درس جديد وتقرأه بالعدد المُقرَّر للدرس الأول مثلًا نفترض أنه مئة وتقرأ درس أمس بخمسين مرة ودرس أول أمس بعشرين مرة مثلًا.

في اليوم الرابع تأخذ درس جديد وتقرأ أول درس بعشرة وثاني درس بعشرين وثالث درس بخمسين مثلًا، بإذن الله هذه الطريقة لا يأتي عليك غالبًا اليوم الثالث إلا وقد ثبت الحفظ لأنه تحفظ على أوقات متفاوتة هذه تُعين كثيرًا على الحفظ وهي مجربة.

الطريقة الثالثة هي: أن تمزج بين الحفظ وبين التكرار والسماع يعني بأن تُكرر هذا المتن بعدد مُعيَّن من التكرار ثم تستمع إليه مسجلًا بصوتك أو بصوت غيرك أيضًا فبعض النَّاس حاسة السمع عنده أيضًا تُعينه كثيرًا الحفظ، بل إن بعض النَّاس وهي الطريقة الرابعة ولا أنصح بها يقتصر على السماع فقط، والآن -الحمد لله- أنَّها استجددت لهم وسائل هذه وسائل الهواتف تُعين على السماع، فالإنسان يُمكن أن يُكرر المادة بالقدر الذي يُحب أن يكررها به ويجدها أيضًا بأصوات متفاوتة بعضها قد يكون محبوبًا عنده وقد يُشجعه ذلك على كثرة السماع لها.

هذه طُرق يُجرِّبها الإنسان وما تأتى لك منها ووافقك منها فهو أحسنُهَا في حقك لأن النَّاس يختلفون النَّاس بعضهم يحتاج في الحفظ أن تكون عينُهُ على المحفوظ، وبعضهم يحتاج إلى السَّماع، وبعضهم يحتاج إلى أن يجمع بين السماع وبين النَّظر وكل ذلك مسلكٌ وطريقٌ يؤدي إلى الهدف إن شاء الله.

خُذا بطنَ هَرْشَى أو قَفاها فإنّه كلا جانِبَي هَرْشَي لهُنَّ طريقُ

كل ذلك طريقٌ متاحٌ للحفظ مُعينٌ عليه إن شاء الله.

بالنسبة للكم يختلف طبعا النَّاس استعداداتهم متفاوتة بعض النَّاس وهبه الله سبحانه وتعالى ملكةً في سُرعة الحفظ فيستطيع أن يحفظ بسرعة، وبعضهم لا يحفظ بسرعة والغالب أن الذي يحفظ بسرعة يَنسى بِسرعة، والذي يحفظه ببطء يكون قوي الحافظ لا ينسى في الغالب، وقد يوجد من يرزقه الله تعالى سرعة الحفظ وثبات المحفوظ، وهنا يتميَّز الإنسان إذا رزقه الله سبحانه وتعالى سُرعة الحفظ وأن المحفوظة أيضًا يثبت لا شك أن هذا باب عظيم من الخير وفضلٌ عظيم من الله سبحانه وتعالى، فلا يُمكن أن نُحدِّد لك قدرًا مُعينًا من الأبيات أو من الأحاديث أو من الآيات لأن هذا مما يختلف بحسب حال الإنسان وغالبًا المشرفون على حلقات تحفيظ أساتذته الطُّلاب يُميزون مستوى الطالب وينصحونه بالقدر الذي يُناسبه من القرآن أو من الأحاديث أو من الأبيات إذا كان يحفظ منظومةً أو قصيدة.

أيضًا الكَم يختلف باعتبار آخر وهو الطَّريقة التي ينتهجها الإنسان هل يُريد الإنسان أن يحفظها الكتاب مرة واحدة بحيث لا يعود إليه، أو يريد أن يحفظه حفظًا أوليًّا وسيعود إليه لتثبيته، فإذا كان الإنسان يُريد أن يحفظ حفظًا مُتقنًا لا يرجع إليه لابد أن يُقلل القدر الذي يأخذ وأن يصبر على الزَّمن حتى يُكمل المحفوظ فيأخذ قدرًا قليلًا، فهو الذي تستطيع أن تُتقن حفظه إذا كان الأمر قليلًا.

من القصص المأثورة عندنا أن رجلًا من أهل العلم كان يدرس في إحدى المحاضر عندنا، فكان يقرأ سطرين أو ثلاثة أسطر من مختصر خليل، هذا كتاب ضخم كتاب العمر فقال له بعضهم: إنك تقرأ شيئًا يسيرًا جدًّا قال: لأنني مستعجل ما معنى مستعجل؟ مستعجل لأنه لا يُريد أن يعود إلى الكتاب مرة أخرى يُريد أن يتقن الكتاب مرة واحدة بحيث لا يرجع إليه مرة أخرى، فهذا وجه استعجاله، لو كان غير مستعجل يمكن أن يقرأ الكتاب ثم يعود له مرة أخرى هو لا يُريد أن يرجع إلى هذا الكتاب يُريد أن يقرأ شيئًا يسيرًا لكن يريد أن يحفظه حفظًا لا يرجع إليه بعد ذلك أبداً.

وبعضهم كان يُكرر الدرس ألف مرة ويُكرر الشرح مائة مرة، وهذه طريقة من فعلَها يثبت المحفوظ بحيث لا يُمكن أن يتزحزح ولا يمكنه أن يتزلزل، لكن النَّاس الآن للأسف الشديد حدثت لهم شواغل كثيرة وضَيَّقت عليهم أوقاتهم بهذه الأجهزة والوسائل التي أصبحت جزءًا من حياتهم، ويُنصح طالب العلم بالتقلُّل من هذه الأجهزة قدر المستطاع وألا يستعملها إلا في المُهم الضروري من أموره؛ لأنها –للأسف- أفسدت على النَّاس أوقاتهم صراحةً، الإنسان ما دام في مرحلة الطَّلب عليه أن يُعطي الأولوية لطلب العِلْم، وأن يُقلل في الشواغل ومن أعظم الشواغل التي ابتُلي بها النَّاس الآن هذا الهاتف صراحةً سرق منَّا -للأسف الشديد-.

بعد أن يحفظ الإنسان يحتاجُ إلى تثبيت المحفوظ، لأن الإنسان محل نسيان، وأول ناسٍ أول النَّاس فالإنسان محلُّ نسيان، فطُرق تثبيت الحفظ منها: استظهار محفوظ يعني مثلًا أنت حفظت الآن هذا الكتاب حاول أن تسرده مرة كل أسبوع مرة واحدة مثلًا حفظت نظم «الآجرومية» مثلًا حاول بعد حفظك له أن تمكُث مثلًا شهرين أو ثلاثة تختمه مرة في الأسبوع تقرأه قراءةً، فإذا ثبت يُمكن أن تحول ذلك إلى شهري مثلًا، وهكذا هذه أهم طرق التثبيت.

من طرق التثبيت أيضًا كذلك مذاكرة طلاب العلم في الكتب، ومنها التدريس فهو يُعين أيضًا كذلك وخصوصًا القيام وعلى التحفيظ لأنك إذا قُمت على التحفيظ ستستمع بشكل منتظم إلى تسميع النَّاس وتسميع النَّاس يُثبت لك المحفوظة الذي عندك. فهذه كلها من وسائل التثبيت.

ومن وسائل التثبيت أيضًا السماع أن تستمع إليه مُسجلًا مرة بعد مرة والنَّاس الآن –للأسف- قلَّ يستغلون أوقاتهم يعني أنت الآن في اتجاهك إلى العمل اتجاهك إلى المدرسة عندك سيارة يمكن تشغل تسمع سورة من القرآن ويُعينك كذلك على تثبيت حفظها تسمع أحاديث تُعينك على تثبيت حفظها، تسمع منظومة مسجلة يُعينك كذلك على حفظها، وبإذن الله تعالى تثبت مع الوقت.

هناك أمور أيضًا مهمة في تثبيت الحفظ وفي تأثيرها عليه: أهم شيء الإنسان دائمًا إذا توجه إلى أي أمر يسأل الله تعالى أن له فالدعاء هو أهمُّ شيء، ادعُ الله أن يُيسر لك الحفظ، وأن تكون من أهل العلم الحافظين العاملين العالمين.

ثانيًا: التحلِّي بالتقوى ومن من الأبيات المأثورة التي تُنسب للإمام الشافعي رحمه الله تَعَالَى:

شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترْك المعاصي
وأخبرني بأن العِلْم نورٌ ونورُ الله لا يُهدى لعاصي

فلا شك أن التقى يوفقه الله سبحانه وتعالى، والعلم نور يُعطيه الله سبحانه وتعالى ويُيسره الله سبحانه وتعالى للمتقين.

من الأمور التي لها تأثيرٌ في الحفظ أيضًا: الزمان والمكان، فيتحرى الإنسان الأوقات التي فيها سكينة وليس فيها ضوضاء وتشويش، ومن أكثر الأوقات ملائمةً للحفظ وقت السَّحر على نفاسته طبعًا، وأنه وقتُ دعاء ولكن يُمكن للإنسان أن يجمع بين ذلك.

وأيضًا الصباح الباكر قبل الصبوح.

كذلك أيضًا الأمكنة الخالية من الضوضاء ولو تيسرت لك خلوة في الصَّحراء فهذا مُجرَّب لا شك أن الأمكنة التي هي خالية من الضوضاء تمامًا أنها تعين الإنسان بإذن الله تعالى على الحفظ.

أيضًا كذلك حال الإنسان إذا كان الإنسان غضبان أو حتى شبعان بعض الأحوال لا تناسب الحفظ.

البيئة أيضًا إذا كان الإنسان في بيئةٍ يتكرر فيها هذا العِلْم ويسمعه بشكلٍ يومي ويُذاكر، هذا أيضًا مما يُعين، بينما إذا كان الإنسان منقطعًا عن البيئة فإنه قد يعسر عليه الحفظ.

كذلك أيضًا السِّن وهنا أُهنئ الحاضرين بأن معظمهم –بحمد الله تَعَالَى- أطفال وصغار هذه هي سن الحفظ، يقولون: التعلُّم في الصغر كالنقش في الحجر.

والتعلم في الكِبر نرجو ألا يكون كما قال بعضهم: إنه كتابة على الماء، الكتابة على الماء لا تثبت طبعًا، ولكن الحالة هذه المبالغة، لكن المُهِم أن السن له تأثير قطعًا، وهذا مجرب يُجربه الإنسان إذا كبُر فإنه يُدرك أنه كان أحفظ في صغره منه حين كبر.

فهذا الشباب –الحمد لله- طاقةٌ وقوّة وفضلٌ من الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يُحفظ وألا يُصرف إلا فيما يُرضي الله سبحانه وتعالى من التقوى وطاعة الله سبحانه وتعالى ومن التعلُّم لأنه وقتٌ نفيس في تحصيل العِلْم. هذا أمر مُشاهد محسوس.

كذلك أيضًا الإنسان تنشأ له ملكة في الحفظ في التعود إذا تعوَّد وكرر الحفظ وعالجه فإنه بعد ذلك بإذن الله تَعَالَى يكتسب ملكةً تُسهل عليه الحفظ والعلم بالتعلُّم والحلم بالتحلُّم.

هذه أهم الخواطر والمسائل التي أردتُ أن أتطرق لها في هذه الكلمة.

نسأل الله تَعَالَى أن يوفقنا وإياكم وأن يُبارك فينا وفيكم وأن يحفظنا وإياكم، وأن يجعلنا وإياكم من العلماء العاملين المتقين.

والله تَعَالى أَعْلَم

وصَلَّى الله وسلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْن.

تحميل التفريغ بصيغة pdf
Scroll to Top