الشاهد الشعري ومكانته في علوم اللغة العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل المُرسلين وخاتم النبين وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

أولًا: أستغفر الله مما ذكر الإخوة فما أنا بعالم ولستُ كما وصفوني وإنما أحدُ طُلاب العِلْم، وأرجو ألا يصدق في قول الحريري:

ما أنت أول سارٍ غرَّه قمرٌ أو رائدٌ أعجبته خُضرة الدِّمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجلٌ مثل المُعيدي فاسمع بي ولا ترني

  أشكر للإخوة في المنتدى هذه الاستضافة الكريمة، وأشكر كذلك لأهل بيت الشعر أن شرعوا أبوابهم لاستضافة مثل هذه المحاضرات، وهذا معهودٌ منهم -بحمد الله- ولسانُ حالهم كما قال الشاعر:

منزلنا رحبٌ لمن زاره فيه سواءٌ نحن والطارقُ
وكُل ما فيه حلالٌ له إلا الذي حرَّمه الخالقُ

إلا الذي حرمه الخالق الكلمة كما قيل يعني الشاهد الشِّعري ومكانته في علوم اللغة العربية في البداية لابد أن نُعرِّف الشاهد لأن الحُكْم فرعٌ عن التصور.

والشاهد: هو الكلام الذي يُحتجُّ به على صحة لفظٍ أو سلامةِ تركيبٍ أو بناء، لأن الشاهد يُحتاج إليه في ثلاثة علوم من علوم اللغة العربية وهي:

– علم اللغة المعجمية.

– وعلم النحو.

– وعلم الصرف.

وأما علوم البلاغة فلا تحتاج إلى شواهد أي: لا تحتاج إلى كلام منقولٍ عن العرب لأنها راجعةٌ إلى المعاني والمعاني يستوي فيها المتقدمون والمتأخرون كما هو معلوم، فيُحتج بالشَّاهد على صحة لفظٍ، وهذا في مجال علم اللغة المعجمية وعلى صحة بناءٍ وهذا في مجال علم الصَّرف، وعلى صحة تركيبٍ، وهذا في مجال علم النَّحو، لأن لغة العرب تنقسم إلى مفردات وجُمَل، وكلٌّ من المفردات والجُمَل يُنظر فيها من جهة مبناها ومن جهة معناها، فالعلم الذي وُضع لبناء المُفردة العربية هو علم التَّصريف والعلمُ الذي وُضع لشرحها هو علمُ اللغة المعجمية، والعلم الذي وُضع لبناء الجملة العربية أي لتأليف الجملة العربيَّة تأليف سليمًا صحيحًا موافقًا لقانون العرب في كلامها هو علمُ النَّحو، ووضع علم البلاغة للمعاني.

فالشاهد الذي نتكلم عنه والذي نحتاج إلى نقله عن العرب يُحتاج إليه في علم النحو والصرف واللغة فقط، وهو أخصُّ من المثال لأن المثال لا يُحتاج فيه إلى النَّقل عن العرب فيُمكن أن تُمثل أنت من كلامك لمسألةٍ تشرحُها ومشاهد فلابد أن يكون منقولًا عمن يوثق بعربيته.

وأصول الاحتجاج: هي القرآن الكريم والسنة النبوية على نزاعٍ سنتكلم فيه قليلًا إن شاء الله، وكذلك أشعارُ العرب وما صحَّ من أمثالهم وكلامهم، أما القرآن فهو أصل كل العلوم، وهذا لا يُماري فيه أحد، فلا نحتاج إلى الإطالة في مسألة حجية القرآن.

وأما السُّنَّة النبوية فإنه مُختلفٌ في الاحتجاج بها:

فالمتقدمون من أئمة النُّحاة كيوسف بن حبيب، والإمام سيبويه، وأبي زيد وأضرابهم لم يكونوا يحتجون بالسنة النبوية في النحو ولا في الصَّرف ولا في اللغة المعجمية، وسبب ذلك: راجعٌ إلى أمرين:

الأمر الأول: هو أن العلماء استجازوا رواية الحديث بالمعنى، القرآن لا يُروى بالمعنى، فهذا القرآن الذي بين أيدينا الآن هو كما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما السُّنَّة فإن العلماء استجازوا روايتها هذا المعنى فلذلك نحن لا ندري هل هذه الألفاظ التي بين أيدينا الآن هي كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصحُ النَّاس فإذا ثبت ذلك لا شكَّ فهو فصيحٌ وهو في قمة الفَصاحة، فينبغي أن يُحتج بها، لكن الرواة استجازوا رواية الحديث بالمعنى وتصرفوا فيه.

المسألة الثانية: أن الرواة دخل فيهم الأعاجم الذين لا فِقه لهم، ولا سليقة بعلوم اللغة، فلأجل ذلك أعرض المتقدمون من النُّحاة عن الاحتجاج بالأحاديث النبوية، وانتصر ابن مالك رحمه الله تعالى للاحتجاج بالسنة وهو الذي أحيى هذه المسألة وتابعه على ذلك أئمةٌ كأبي حيان وابن هشام وأضرابهم، وفي الحقيقة ينبغي تُستثنى بعض الأمور فلا ينبغي أن يقع فيها الخلاف الأحاديث التعبُّديةُ لا تستجيز الأمة روايتها بالمعنى، فنحن الآن نجزم أن ألفاظ الأذان التي نؤذن بها هي التي كان يؤذن بها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ألفاظ التحيات وغير ذلك من الألفاظ التعبدية فهذه لا تجوز روايتها بالمعنى، فالأمة تنقلُها بلفظها، فلا ينبغي أن يُنصب فيها الخلاف في الاحتجاج.

أيضًا كذلك عندنا بعض الكتب أُلِّفت في عصر الاحتجاج فالإمام رحمه الله تعالى في عصر الاحتجاج، فإذا روى لنا الإمام مالك رحمه الله تعالى عن نافع عن عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه السلسلة كلها فصاحة وبلاغة فلا ينبغي أن يُنصب الخلافُ في هذا.

كذلك أيضًا يُحتج بأشعار وبأمثال العرب جميعًا، لأن العرب لا تَروي الأمثال بالمعنى، فالأمثال لا تُغيَّر العرب لا تُغيِّر المثال وتنطق به كما نطقته العرب فمثلاً: «الصيف ضيعتي اللبن» هذا مثلٌ أصلًا قِيْل: لامرأة، فإذا أردت أن تُورده لرجل فلا تقل ضيعت، العرب لا تتصرف في الأمثال بل تنقلها كما جاءت فتقول: «الصيف ضيعتي اللبن» تقول ذلك للرجال والنساء. إذًا الأمثال أيضًا صِينت وحُفظت لأن العرب لم تكن تستجيز روايتَهَا بالمعنى، وكانت لا تتصرف فيها، بل تنقلها كما جاءت، وكذلك كل ما صح من كلام العرب فإنه يكون حينئذٍ أصلًا من أصول الاحتجاج.

نُعرِّج أيضًا على مسألة [تاريخ الشَّاهد الشعري] فالاستشهاد بالشعر في اللغة وقع في عهد الصحابة، لكن وقع الاستشهاد بالشعر في اللغة المُعجمية قبل الاستشهاد بالنحو، بل يُمكن أن يكون قد وقع قبل أن يوجد عِلْم النحو.

مثلًا مسائل ابن الأزرق مسائلٌ مشهورة وهي أسئلةٌ طَرحها نافع بن الأزرق الخَارجي على بحر الأمة وحبرِهَا عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وأمه واستشهد له ابن عباسٍ بأبياتٍ شعرية فقال له: ما الرِّيش؟ قال: الريش المال أما سمعت قول الشاعر:

فَرِشني بِخَيرٍ طالَما قَد بَرَيتَني وَخَيرُ المَوالي مضن يَريشُ وَلا يَبري

 وسأله عن قول الله تَعَالَى: ﴿وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾ [طه:119] قال تبرز للشمس وكان قد عاب على ابن عباس أنه استمع لقصيدة عُمر بقصيدة أبي الخطاب عُمر بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر مخزوم شاعر قريش المشهور:

أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ
لِحاجَةِ نَفسٍ لَم تَقُل في جَوابِه فَتُبلِغَ عُذراً وَالمَقالَةُ تُعذِرُ
تَهيمُ إِلى نُعمٍ فَلا الشَملُ جامِعٌ وَلا الحَبلُ مَوصولٌ وَلا القَلبُ مُقصِرُ
وَلا قُربُ نُعمٍ إِن دَنَت لكَ نافِعٌ وَلا نَأيُها يُسلي وَلا أَنتَ تَصبِرُ
وَأُخرى أَتَت مِن دونِ نُعمٍ وَمِثلُها نَهى ذا النُهى لَو تَرعَوي أَو تُفَكِّرُ
إِذا زُرتُ نُعماً لَم يَزَل ذو قَرابَةٍ لَها كُلَّما لاقَيتُها يَتَنَمَّرُ
عَزيزٌ عَلَيهِ أَن أُلِمَّ بِبَيتِها يُسِرُّ لِيَ الشَحناءَ وَالبُغضُ مُظهَرُ
أَلِكني إِلَيها بِالسَلامِ فَإِنَّهُ يُشَهَّرُ إِلمامي بِها وَيُنَكَّرُ
بِآيَةِ ما قالَت غَداةَ لَقيتُها بِمَدفَعِ أَكنانٍ أَهَذا المُشَهَّرُ
قِفي فَاِنظُري أَسماءُ هَل تَعرِفينَهُ أَهَذا المُغيريُّ الَّذي كانَ يُذكَرُ
أَهَذا الَّذي أَطرَيتِ نَعتاً فَلَم أَكُن وَعَيشِكِ أَنساهُ إِلى يَومِ أُقبَرُ
فَقالَت نَعَم لا شَكَّ غَيَّرَ لَونَهُ سُرى اللَيلِ يُحيِي نَصَّهُ وَالتَهَجُّرُ
لَئِن كانَ إِيّاهُ لَقَد حالَ بَعدَنا عَنِ العَهدِ وَالإِنسانُ قَد يَتَغَيَّرُ
رَأَت رَجُلاً أَمّا إِذا الشَمسُ عارَضَت فَيَضحى وَأَمّا بِالعَشيِّ فَيَخصَرُ
أَخا سَفَرٍ جَوّابَ أَرضٍ تَقاذَفَت بِهِ فَلَواتٌ فَهوَ أَشعَثُ أَغبَرُ
قَليلاً عَلى ظَهرِ المَطِيَّةِ ظِلُّهُ سِوى ما نَفى عَنهُ الرِداءُ المُحَبَّرُ

إلى آخر القصيدة.

إذا الشاهد الشعري قديم جدًّا فالصحابة استشهدوا، لكن هذا الاستشهاد -كما ذكرنا- هو في علم اللغة المعجمية لأن هذا رُبَّما يكون قبل نشأة علم النحو أو عند ولادة علم النحو على قول مَن يقول: «إن النحو ولد في الخلافة على ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأنه هو الذي أشار على أبي الأسود بوضعه كما هو معلوم».

❖ لماذا اعتنى العلماء عنايةً خاصَّةً بالشواهد الشعرية؟

العرب ما كانت تستجيز رواية الشعر بالمعنى والشعر معلوم أنه هو ديوان العرب الذي كان ينقل مناقبهم ومثالبهم، فكان لهم اعتناءٌ خاصٌّ بالشعر كما هو معلوم، بل كانت لهم رواية بعضُها يُشبه رواية أهل الحديث كان زُهير راوية أوس بن حُجر، وكان الحطيئة راوية زُهير فكان يكون للشاعر راوي، ولذلك الراوي راوٍ آخر فتتسلسل الرواية في الشعر على طريقة أهل الحديث كما هو معلوم.

والأشعار التي يُستشهد بها قيض الله لها رجالًا انتقوها وصفَّوها فحدوا لها حدودًا زمانيةً وحدودًا مكانية، فلم يقبلوا الاستشهاد بشعر كل أحد، فلم يقبلوا الاستشهاد بأشعار من كان مُحاذيًا لأطراف الشام لأنه قريبٌ من الروم فربما تأثر بهم، وكذلك أيضًا مَن كان مُحاذيًا للعراق فهو أيضًا كذلك رُبَّما يتأثر بفارس فأخذوا الإشعار من جزيرة العرب، ومِن صُلب الجزيرة، وحدُّوا أيضًا كذلك حدودًا زمانية، فطبقات الشعراء -كما هو معروف- أربع طبقات:

  • الطبقة الأولى: الشعراء الجاهليون كامرئ القيس، والأعشى، والنابغة.
  • والطبقة الثانية: هم المخضرمون وهم الذين قالوا الشعر في الجاهلية وفي الإسلام وذلك كحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه فإنه قال الشعر في الجاهلية وقاله في الإسلام أيضًا كذلك وأضرابُ حسان كثير.
  • الطبقة الثالثة: يقال لهم: المُتقدِّمون ويقال لهم الإسلاميون أيضًا وهم شعراء الدولة الأموية، هؤلاء الطبقات الثلاث يُستشهد بأشعارهم لا خلاف بينهم في أنه يُستشهد بالطبقتين الأوليين وهما: الجاهليون والمخضرمون.

ووقع خلاف في الطبقة الثالثة نُكمل الطبقات ثم نرجع إلى مسألة الخلاف للطبقة الثالثة.

الطبقة الرابعة : هم طبقة المُحدثون والمُحدثون هم كل مَن جاء بعد عصر بني أُميَّة من الشعراء إلى اليوم، وهؤلاء لا يُستشهدوا بأشعارهم في النحو ولا في الصرف، ولا في اللغة المعجمية، وأما البلاغة فيُستشهد فيها بشعر كلِّ أحد حتى لو قُلت أنت الآن قصيدة فيُمكن أن نستشهد بشعرك في البلاغة لأنها راجعةٌ إلى المعاني فهذه العلوم الثلاثة راجعةٌ إلى ضبط الألفاظ والتراكيب كما نطقها العرب الفُصحاء بسليقتهم، فلذلك لا يُقبل فيها من جاء بعد الطبقة الثالثة.

هنالك قول للزمخشري أن مَن كان منهم يوثق بعربيته فإنه مقبول وقد استشهد في تفسيره بأبيات لحبيب بن أوس الطائي أبي تمام وقال: “إن العلماء تلقوا روايته بالقبول وهو عالم باللغة فنجعل ما قاله بمنزلة ما يرويه ألا ترى أنهم يقولون: دليلُ ذلك أو حجة ذلك بيت الحماسة فكما أنهم تلقوا ما رووه بالقبول فينبغي أيضًا أن يتلقوا ما قاله لكن لم يُتابع الزمخشري على هذا القول وجمهور أئمة اللغة لا يقبلون هذه الطبقة، بل إنه جرى الخلاف في الطبقة الثالثة وهي طبقة شعراء بني أُميَّة لماذا بني أُميَّة؟ لماذا انتهت السليقة مع بني أُميَّة؟ لأن بني أُميَّة جاء بعدهم العباسيون والعباسيون جاءوا بثورة، وهذه الثورة وقودُها العجم، فالعجم هم الذين جاءوا بالعباسيين ودخلوا في بلدان العرب وفي العرب ومُدن العَرَب، فأفسدوا عليهم سليقتهم، ففسدت السليقة عند ذلك.

أما شعراء بني أُميَّة فقد وقع الخلاف في الاحتجاج بهم لكن جمهور أئمة اللغة على صحة الاحتجاج بهم ولم يردد الاحتجاج بهم إلا بعض معاصريهم والمعاصرة تمنع المناصرة كما يقولون.

فمثلاً الإمام أبو عمرو بن العلاء لم يكن يرى الاحتجاج بشعر بني أُميَّة بشعر شعراء المعاصرين لبني أُميَّة كالفرزدق وجرير وأضرابهم.

وقال الأصمعي: «جالستُ أبا عمرو عشر سنين فما سمعته احتج بشعر إسلام» أي بشعر أحد من شعراء الدولة الأموية.

وكذلك أيضًا عبد الله الحضرمي أيضًا الذي وقع بينه وبين الفرزدق ما هو معلوم من تلحينه للفرزدق والفرزدق من شعراء الحواضر في عهد بني أُميَّة، وقد وقع في أشعاره بعض الاختلالات أو بعض الانتقادات فمن ذلك قوله في قصيدته المشهورة:

عَزَفتَ بِأَعشاشٍ وَما كِدتَ تَعزِفُ وَأَنكَرتَ مِن حَدراءَ ما كُنتَ تَعرِفُ
وَلَجَّ بِكَ الهِجرانُ حَتّى كَأَنَّما تَرى المَوتَ في البَيتِ الَّذي كُنتَ تَيلَفُ

إلى أن يقول:

فيا ليتنا كنا هنالك لا نُرى على مَنْهَلٍ إلاّ نُشَلّ، ونُقْذَفُ
بِأَرْضِ خَلاءٍ وَحْدَنَا، وَثِيابُنا مِنَ الرَّيْطِ والديباجِ دِرعٌ وَمِلْحَفُ
وَلاَ زَادَ إلاّ فَضْلَتَانِ: سُلافَةٌ وَأَبْيَضُ مِنْ ماءِ الْغَمَامَةِ قَرْقَفُ
وَأَشْلاَءُ لَحْمٍ مِنْ حُبارى يَصِيدُها إذا نَحْنُ شِئْنا صَاحِبٌ مُتَأَلِّفُ
لَنَا ما تَمَنّيْنا منَ العيشِ، ما دَعَا هَدِيلاً حَمَامَاتٌ بِنَعْمَانَ وُقّفُ
إليكَ، أَميرَ المؤمِنينَ، رَمَتْ بنا هُمُومُ المُنى، وَالهَوْجَلُ المُتَعَسِّفُ

عند ما قال له: على ما رفعت (إلا مُسحةً أو مُجلَّفُ) قال: على ما يسوؤك ويسوء أباك وأمك.

كذلك أيضًا الفرزدق في شعره بعض الانتقادات الأخرى فمن ذلك مثلًا قوله:

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريشٌ وإذ ما مثلهم بشرُ

 هكذا جاءت الرواية عن الفرزدق.

ومعلومٌ أن «ما» النافية تعمل عمل «ليس» عند الحجازيين لا عند التميميين.

قال ابن مالك رحمه الله تعالى في الكافية:

وما لـ «ما» عند تميم عملُ لأنها حرفٌ لديهم مُهملُ

 وإعمالُها هو لغة الحجازيين قال تَعَالَى: ﴿ما هذا بشرًا﴾ وقال تَعَالَى:﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ فإعمالُ ما الحجازية إعمال ليس هو مذهبُ أهل الحجاز، وعلى لغتهم جاء القرآن الكريم، لكنهم يشترطون لها شروطًا، وقد أخل الفرزدق ببعض هذه الشروط:

فمن ذلك أنه لابد من ترتيب معمولاتِهَا كما قال ابن مالك: (مع بقا النفي، وترتيب زكن)، لابد من ترتيب معمولاتها بتقديم اسمها على خبرها وهو قال: (وإذ ما مثلهم بشرُ) فاعملها مع تقديم الخبر على الاسم قالوا: هو تميمي، فأراد أن يتكلم بلغة غيره فأخطأ فهذا من توجيهاتهم لهذا البيت.

و «ما» معلومٌ أن التميميون لا يُعملونها، ومن لطائف أدب النحات قول بعضهم:

ومُهَفهَفِ الأعطافِ قلتُ لهُ: انتَسِبْ فأجابَ: ما قَتلُ المُحِبِّ حرَامُ

قلتُ له: انتسِب ما نسبك سأل هذه المرأة ما هو نسبها؟ فأجاب: ما قتل المُحب حرامُ فعُلم أنه تميميٌ هذا يكفي في الانتساب يكفي في انتسابه أنه قال: (ما قتل المُحب حرامُ) بالرَّفع لأنه لو قالها بالنصب لعُلم أنه حجازيٌ كما هو معلوم.

كذلك أيضًا وقع له هذا في غير هذه القصيدة وفي أبيات أُخرى:

بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهاريرِ

 ضمنت إياهم يعني ينبغي أن يقول: ضمنتهم.

كذلك أيضًا قوله:

مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
على عمائنا تُلقى وأرحلُنا على زواحف تُزجى مُخها ريرِ

 ينبغي أن يقول: (مُخلها ريرُ)، لكن هنا سؤال: لماذا عدل الفرزدق عن الإقواء إلى مخالفة قاعدة النحو، فيُمكن أن يقول: (مُخها ريرُ) ويكون هذا أقوى، هكذا كان يفع الشعراء الجاهليون، فالشاعر الجاهلي إذا اضطر إلى الإقواء أقوى، ولا يطاوعه لسانه بمخالفة القاعدة النحوية مثلًا في القصيدة التي تُنسب للنابغة وهي القصيدة التي قِيلت في المتجردة: إن كنت لا أطمئن شخصيًّا إلى نسبتها للنابغة:

أمِنَ الِ مَيَّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِ عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مُزَوَّدِ
أَفِدَ التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكَابَنا لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وكأنْ قَدِ
زَعَمَ البَوارِحُ أنَّ رِحْلَتَنا غَدًا وبذاكَ خَبَّرنا الغُدَافُ الأسودُ

الشاهد: (الأسودُ) لم يقل: (الأسودِ) فالجاهلي لا يطاوع ولا تطالعه سليقته بأن يكسر قواعد النحو، لكن يُمكن أن يكسر قواعد القافية كما فعل النابغة هنا وكما أيضًا في قصيدته الأخرى:

قالَت بَنو عامِرٍ خالوا بَني أَسَدٍ يا بُؤسَ لِلجَهلِ ضَرّاراً لِأَقوامِ · يَأبى
يَأبى البَلاءُ فَلا نَبغي بِهِم بَدَلاً وَلا نُريدُ خَلاءً بَعدَ إِحكامِ
فَصالِحونا جَميعاً إِن بَدا لَكُمُ وَلا تَقولوا لَنا أَمثالَها عامِ
إِنّي لَأَخشى عَلَيكُم أَن يَكونَ لَكُم مِن أَجلِ بَغضائِهِم يَومٌ كَأَيّامِ
تَبدو كَواكِبُهُ وَالشَمسُ طالِعَةٌ لا النورُ نورٌ وَلا الإِظلامُ إِظلامُ
أَو تَزجُروا مُكفَهِرّاً لا كِفاءَ لَهُ كَاللَيلِ يَخلِطُ أَصراماً بِأَصرامِ

 وكقول امرؤ القيس:

جالَت لِتَصرَعَني فَقُلتُ لَها اِقصِري إِنّي اِمرُؤٌ صَرعي عَلَيكِ حَرامِ

هذا في قصيدته التي جاء على الميم المكسورة:

لِمَنِ الدِيارُ غَشِيتُها بِسُحامِ فَعَمايَتَينِ فَهُضبُ ذي أَقدامِ

 إلى أن يقول:

جالَت لِتَصرَعَني فَقُلتُ لَها اِقصِري إِنّي اِمرُؤٌ صَرعي عَلَيكِ حَرامِ
فَجُزِيتِ خَيرَ جَزاءِ ناقَةِ واحِدٍ وَرَجَعتِ سالِمَةَ القَرا بِسَلامِ
وَكَأَنَّما بَدرٌ وَصيلُ كَتيفَةٍ وَكَأَنَّما مِن عاقِلٍ أَرمامِ
أَبلِغ سُبَيعاً إِن عَرَضتَ رِسالَةً أَنّي كَهَمِّكَ إِن عَشَوتَ أَمامي
أَقصِر إِلَيكَ مِنَ الوَعيدِ فَإِنَّني مِمّا أُلاقي لا أَشُدُّ حِزامي

إذا الشاعر الجاهلي (لا تُطاوِع نفسه) بكسر القاعدة النحوية لكنه قد يُخالف عِلْم القوافي فيطوي، فهذا هو الفرق بين الفرزدق وبين الشعراء الجاهلين.

لمَّا كان الشعراء الجاهليون لا تطاوعهم أنفسهم باللحون ولا يلحنون كان النَّقد في العصر الجاهلي مُنصبًّا على المعاني فقط، فلا نقد في الإعراب، ولذلك ما أسواق عكاظ إنما كانت تُنقد فيها المعاني فقط كأبيات حسان:

لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما

 فيما يُروى أن النابغة نقد له هذا البيت، وانتقد عليه بعض الأمور ترجع إلى المعاني قال له: أنتَ قُلتَ لنا (الجفناتُ) كان ينبغي أن تقول: (الجفان) لأن جمع السَّلامة ملحقٌ بجموع القلة، جموع القلة في التكسير أربعة جمعها ابن مالك في قوله:

أَفْعِلَة ٌأَفْعُلُ ثُمَّ فِعْلَةْ مَّتَ أفعالٌ جُموعُ قِلَّةْ

 لكن جمع السلامة لمذكر ومؤنث أيضًا كذلك ملحقٌ بجموع القلة.

قال: (يلمعن) ينبغي أن تقول: (يبرقن) (بالضحى) قل (بالدجى) لأن الضيف أكثر طروقًا بالليل (وأسيافُنا) هذه جمع قلَّة ينبغي أن تقول (سيوفنا) (يقطُرْن) قل: (يجرين) فهذا النَّقد كله راجعٌ إلى المعنى، لا يوجد نقدٌ في الشعر الجاهلي وفي العصر الجاهلي يتعلق بالإعراب وبقواعد اللغة العربية، لأن العَرَب يتكلمون بالسليقة ولا يحتاجون إلى مثل هذا النَّقد.

الشاهد الشعري: أهميته تكمن في أنه حجة في هذه العلوم التي ذكرنا.

وأيضًا كذلك من خلال الشواهد الشعرية ومن خلال الإشعار قد نُميِّز لغات ولهجات بعض القبائل فمثلاً كلمة (الزوجة) من لغة تميم وليست من لغات أهل الحجاز.. الحجاز يقولون لامرأة الرَّجُل: هي (زوجه بغيرها) وهذه هي لغة القرآن الكريم: ﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ أي هيأناها للحمل:  ﴿ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾، ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ ولم يقل: زوجاته، فالزوجة بالتاء والزوجات في جمعها لغة تميم، فإذا سمعت مثلًا هذه الأبيات:

تَقولُ عَجوزٌ مَدرَجي مُتَرَوِّحاً عَلى بابِها مِن عِندِ أَهلي وَغاديا
أَذو زَوجَةٍ بِالمِصرِ أَم ذو خُصومَةٍ أَراكَ لَها بِالبَصرَةِ العامَ ثاويا
فَقُلتُ لَها لا إِنَّ أَهلي لَجيرَةٌ لأَكثِبَةِ الدَهنا جَميعا وَماليا
وَما كُنتُ مُذ أَبصَرتِني في خُصومَةٍ أُراجِعُ فيها يا اِبنَةَ القَومِ قاضيا

 هذه الأبيات فيها دليلان على أن صاحبها ليس من أهل الحجاز أولًا: لغته في الزوجة وأيضًا ذكر أرضه فهو من الدهناء ورمال الدهناء هذه أرض تميم كما هو معلوم، الشاعر ليس تميميًّا في الحقيقة الشاعر هو غيلان ذو الرمة وذو الرمَّة من الرباط والرباط هم قبائل ترببت في عداد تميم، ولكنها ليستْ من ولد تميم فهم من ولد عبد مناة ابن أُد بن طابخة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان فتميم عمه وهم ثور وعِجلٌ وعديٌّ وضبة وعُكْل كما قال البدوي رحمه الله تعالى في أنساب:

عبدُ مناة ابن أُدٍ تُسب له الرباب زمرٌ تربَّبُ مع تميم وهي ثورٌ
عِجْلٌ عديٌّ ضبةٌ وعُكلُ  

 لكن هم في عداد تميم ولغتهم لغة تميم، ونجد الفرزدق أيضًا يقول:

فَإِنَّ اِمرَأً يَسعى ليُفسد زَوجَتي كَساعٍ إِلى أُسدِ الشَرى يَستَبيلُها

(وإن الذي يسعى ليُفسد زوجتي) هذه لغة تميم وليست لغة أهل الحجاز -كما هو معلوم- إذًا من خلال هذه الشواهد يُمكن أن تعرف الشاعر من أي جهة أو من أي قبيلة، كيف تعامل النُّحاة مع الشواهد الشعرية؟

النحو نشأ وترعرع في مدينتين بالعراق:

إحداهما: يقال لها البصرة.

والثانية: يقال لها الكوفة.

وأهل اللغة يعتبرون أن الإجماع في اللغة العربية هو إجماع المصرين أي إجماع البصرة والكوفة، ما أجمع عليه أهل البصرة والكوفة فهو حجة، على ما استقر النحو العربي النحو العربي استقر على اختيارات أهل البصرة، فأهلُ البصرة هم أهل التحقيق في النحو العربي وقواعدهم منضبطةٌ، وإن كان الكوفيون أكثرَ سماعًا لكن البصريون أكثرُ تحقيقًا، فالبصرة كانت عاصمة العراقيين كان هناك إقليم يُسمَّى بالعراقيين، والعراقان هُمَا البصرةُ والكوفة، فالكوفة كانت هي العاصمة وكان يَفِدُ عليها كثيرٌ من الأعراب وكثيرٌ من العرب فكان عندهم سماعٌ كثير وأشعارٌ كثيرة، لكن من جهة التقعيد كانت قواعد البصريين أضبطَ من قواعد الكُفْر لأن البصريين يُقعدون بما هو جادةُ كلام العرب مما هو مشهور معروف في كلام العَرَب، وما كان قليلاً أو نادرًا فإنهم لا يعبؤون به في وضع القَوَاعِد، بل يقولون: هذا نادرٌ أو شاذٌّ أو من غير الغالب، أو يجعلونه ضرورةً إذا كان شعرًا، وبهذا استقامت قواعدهم، ولو ذهبنا نخرم كل قاعدة ببيتٍ مسموعٍ عن العرب لَمَا استقامت لنا قاعدة، لو ذهبنا نخرم قواعد النحو العربي بالسماع لما استقامت لنا قاعدة إذ ما مِن قاعدة إلا وفيها شذوذ، فمن هُنَا كان أهل البصرة أهل التحقيق في النحو العربي لأنهم وضعوا القَواعد بما هو على جادةِ كلام العرب وما هو مشهور كلام العرب وما فيه لُغَتان نبهوا عليه سواء كان في مسألةٍ نحوية كمسألة إعمال «ما» وإهمالها هذه لغة الحجاز وهذه لغة تميم، أو كان في مسألة صرفيَّةٍ كمثلًا أن «حَسِبَ» بالكسر مُقتضى القياس أن يكون مضارعها يحسب لأن كل فعلٍ على وزن فَعِلَ  بالكسر مضارعه يفعل فأنت تقول: رَحِم يرْحَمُ وركِب يَرْكَبُ، وعَلِمَ يَعْلَمُ وشرِبَ يشرَبُ، هذا هو جادة كلام العرب، لكن هناك أفعالٌ اشتهرتْ عن العرب أنها بالوجهين كفعل «حَسِبَ» مثلاً: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ﴾ [القيام﴾ة:3] مقروءٌ -بالفتح والكسر- كما قال الشاطبي رحمه الله تَعَالَى:

وَيَحْسَبُ كَسْرُ السِّينِ مُسْتَقبِلاً سَمَا رِضَاهُ وَلَمْ يَلْزَمْ قِيَاساً مُؤَصَّلَا

أي المُشار إليه في بسما وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو والمشار إليه بالراء من رضاه وهو الكسائي، (ولم يلزم قياسًا مؤصلًا) نبه على أن قراءة هؤلاء ليستْ هي القياس فالقياس في فاعلان يكون مضارعُهَا (يَفْعَلُ) بالفتح كما هو مُقررٌّ في علم التصريف، لكن يقال في هذا: في حَسِبَ يَحْسَب الفتح أقيس والكسر أفصح لماذا؟ لأنه ثبت أنه يَحْسِبُ هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم جاء ذلك في حديث لَقيط بن صابرة وافد بني المنتفق في سنن أبي داود أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذبح النبي صلى الله عليه وسلم شاةً في ضيافه، فشق عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلَّف في ضيافته قال: فقال لي: «لا تحسِبَنَّ أنَّا ذبحناها من أجلك» قال الراوي: «قال لا تحسِبَنَّ» ولم يقل: «لا تحسَبَنَّ) الصحابي نفسه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَحسِبن» ولم يقل: «لا تحسبَنَّ» إذا علمنا أن هذه هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم.

والفصاحة لا تُنافي الشذوذ القياسية، لأن الشذوذ القياسية قد يكون مُتعينًا بعض الكلمات أصل العرب لم تنطق قياسها كلمة (استحوذ) لا تجري على القياس أن يقال: استحال كما يُقال: استطار واستنار، ولكن العرب لم تَقُل: (إلا استحوذ) فلا قياس أصلًا في هذه الكلمة فالمدار في الحقيقة على الاستعمال إذا كان اللفظ صالحًا قياسًا واستعمالًا فهذا هو الأحسن وإلا فإن المدارة على الاستعمال ولو خالف القياس -كما هو معلوم- إذًا هكذا عامل النُّحاة مع الشواهد الشعرية، فاقتصد البصريون في التقعيد بها بقدر ما يتماشى مع جادة كلام العرب، وردوا أشياء كثيرة لأنَّها مخالفة لِمَا هو جادةُ كلام العرب.

مسألة هل الشَّاهد الشعري محفوظٌ عن العرب منقولٌ هذه مسألة وقع فيها نقاش كثير قديمًا وحديثًا والشواهد الشعرية التي عليها قائلوها معروفون، نعم وقع في كتاب سيبويه خمسون شاهدًا لا يُعرف لها قائل، ولكن هو رواها عن مَن يثق به وتقبلها العلماء، ونحن لا ننكر أنه وقع انتحال لا شك أنه وقع انتحال في الشعر لكنه لا يرقى إلى درجة التشكيك في الشعر الجاهلي كما يروق لبعض المستشرقين ومن تأثَّر بهم ممن يرون أن الشعر الجاهلية خُرافة.

أيضًا كذلك مما يتعلق بالشاهد الشعري: الحديث عن الضرورة الشعرية الشعر محل ضرورة لأن له قيودًا ففيه وزنٌ وقافية، وهذا ما يُميز الشعر العربي، فالشعر كان موجوداً دون قافيةٍ ولا وزنٍ عند الأمم القديمة، وهذا معنى ما يُقال في الدرس المنطقي عندنا أن الحجج العقليَّة خمسٌ وهي: البرهان والجدل الخطابة والشِّعر والسفسطة ويقولون في شرح الشعر: إنه كلامٌ مشتملٌ على تصويرٍ وتخييلٍ مؤثرٍ على القلب ولا يُخاطب العقل وأنه لا يُشترط فيه وزن ولا قافية لأن الشعر اليوناني هكذا كان كما يقال الآن مثل ما نقول ما يسمي الآن الشعر الحُر، هذا كان موجودًا عند اليونان قبل الإسلام وكان موجودًا عند جميع الأمم الذي يُميز الشعر العربي هو الوزن والقافية، هذا هو ما يُميز الشعر العربي فالشعر الحر كان موجودًا قبل ناسك الملائكة وكان موجودًا قبل ناسك السياف بل إن مشايخنا هنا في المحظرة كانوا يُدرِّسون أن الشعر تُقال لهذا الكلام المُخيِّل الذي لا يشترط فيه وزنٌ ولا قافية كان العلامة المُختار ابن بونا يُدرِّس هذا قبل أن يولد السيَّاب وقبل…

على كل حال: اعتنى العلماء بالشواهد قلت الضرورة الشعرية الضرورات الشعرية منها ما هو مقبول وبعضُها يُوصَفُ بالحسن، فمن ذلك مثلًا تقدير النصب على الاسم المنقوص، من المعلوم أن الاسم المنقوص يظهر عليه النَّصب بالفتحة ويُقدَّر عليه الرَّفع والجر كما هو مقررٌ في علم النحو لكن تقدير النَّصب عليه على حد قول المجنون:

    ولو أن واش باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

 هذا من أحسن الضرورات يقولون: لأن فيه إلحاقًا لهذا القسم بأخويه فمن سار عليه يجعل المنقوص جميعًا قِسْمًا واحدًا يُقدَّر عليه الإعراب فهذا من أحسن الضرورات ومن أقبحها قالوا: تنوين «أفْعَلَ» أن تقول: هذا أبيضٌ مثلًا هذا من أقبح الأشياء في الأذن فضرورات الشِّعر منها ما هو مُخلٌّ بالفصاحة كما يُذكر في بداية الدرس البلاغي:

[الحمد لله العلي الأجللِ) مثلاً هذا فكٌّ مخلٌّ بالفصاحة.

ومنها ما هو مقبول، ولذلك ما كان مقبولًا يُفضله الشعراء على الاقواء مثلًا امرؤ القيس امرؤ القيس معلقته على اللام المكسورة:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ ومنزلي بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

 ولمَّا بلغ قوله:

ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي بصُبْحٍ وما الإصْباحَ فيك بأمثَلِ

الجاري على جدة كلام العرب أن يقول: (بأمثلَ) لأن هذا وصف ممنوع من الصرف، لكنه لم يقو لم يرجع إلى الإقواء، لماذا لم يرجع؟ لأن هذه ضرورة حسنة هذا لا إشكال فيه لم يرجع هنا إلى الإقواء، فاستعمل هذه الضرورة إذًا عندما تكون الضرورة مقبولة يستعملها حتى الجاهلي نحن قُلنا: إن الذي وقع للفرزدق في مسحة أو مُجلَّف لم يقع للنابغة ولا لامرئ القيس حين وجدوا أن القاعدة تُحاصرهم فنطقوا بالكلمة مُخالفة للراوي (مقوينا) على السليقة، لكن عندما تكون الضرورة مقبولة فإنه يأتي بها ولا يلجأ إلى الإقواء فامرؤ القيس (لم يقل بأمثلَ) لم يقوِ هُنَا إذًا فهذا ضرورةٌ مقبولة واضحة، اعتنى العلماء بالشواهد فألفوا فيها كُتبًا كثيرة شواهد الألفية دُونت وشواهد أيضًا كذلك شافية ابن الحاجب وكافيته وشواهد «المغني» للسيوطي وهذا يدل على عناية علماء النحو واهتمامهم بالشاهد الشعري بقائله وبقصيدته وبسياقه الذي قيل فيه وبتوجيهه أيضًا كذلك.

نختم بمسائل ليست هي في الحقيقة استطراد ولكنها ليست بعيدة عما نحن فيه تتعلق بإبداعات الشناقطة في الدرس النحوي فمثلاً: من ذلك التعليم القصصي وهو ليس أسلوبًا جديدًا لكن إدخاله في الأمثلة النحوية ليس معهودًا النحاة اختلفوا في حذف أحد معمولي ظن لغير دليل والراجح عندهم أن ذلك غير جائز قال ابن مالك في الخلاصة:

ولا تُجز هنا بلا دليلِ سقوط مفعولين أو مفعولِ

 يُصوِّر لنا العلامة ابن عبد الحميد معركةً بين النحاة فيها سيوف وعساكر فيقول:

معمولُ ذا الباب إذا تحاوله يمنعه صاحبه وعاملُهُ

الصاحب من شأنه أن يحمي صاحبه والعامل من أسماء السَّيف.

(معمولُ ذا الباب) إذا أردت أن تحذف أحد المعمولين لغير دليلٍ منعه صاحبه وعامله.

ومنعًا انحذافه من أن يكون جيشٌ لواؤه على ابن ملكون
وعندنا ثبت أن عسكره هزمه الشادون بيت عنتره
فنهنوا عمن يخاف ضيره والحق ذا فلا تظني غيره
فذانك كان حذفه إجماعًا لدى الدليل اتسع اتساعًا
ذكره التصريح كبش الفن وكان يوم ذاك عنده ظنِّ

المسألة الأخيرة مسألة أيضًا أنهم صاغوا الشواهد في قالبٍ شعري مثال من نظم العلامة الحسن بن زين رحمه الله تعالى يتطرق لمسائل تختلف النُّحاة، هل يجوز دخول لام الابتداء على خبر «إنَّ» إذا كان فِعلًا ماضيًا متصرفًا، وهل يجوز دخول لام الابتداء على معمول خبر «إنَّ» إذا كان أيضًا كذلك فعلًا ماضيًا متصرفًا.

النحاة يُمثلون لهذا بقولهم: «إن زيدًا لطعامك أكل» أو «إن زيدًا لأكل طعامك» هذه أمثلة النُّحاة، ماذا قال العلامة الحسن بن زين؟ قال:

إن الفتى لبات بالفتاةِ حيران مُشرفًا على الوفاةِ
وإن دمعه لعند مَن حكى شوقًا فما أطول ما كان بكى

هذا المثال، ثم ذكر أقوال النحات فقال:

جاز لدى الأخفش ولو قال به هشام الأجلُّ
ووافق الفراء في الأخيرِ وذان لحنان على الشهيرِ

 طبعًا وافق الفراء في الأخير، هذا هو نهاية هذه المحاضرة.

تحميل التفريغ بصيغة pdf

Scroll to Top